أمّا الآية الأخرى فهي تطمئن النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتوضح له أن المهم هو أنّ الله قد شهد بما أنزل عليه من كتاب ،وليس المهم أن يؤمن نفر من هؤلاء بهذا الكتاب أو يكفروا بهفتؤكد الآية في هذا المجال:( لكن الله يشهد بما أنزل إِليك ) .
ولم يكن اختيار الله لمحمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمنصب النّبوة أمراً عبثاًوالعياذ باللهبل كان هذا الإِختيار نابعاً من علم الله بما كان يتمتع به النّبي من لياقة وكفاءة لهذا المنصب العظيم ،ولنزول آيات الله عليهحيث تقول الآية: ( أنزله بعلمه ) .
ويمكنأيضاًأن تشمل هذه الآية معنى آخر ،وهو أن ما نزل على النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )من آيات إِنّما ينبع من بحر علم الله اللامتناهي ،وإِن محتوى هذه الآيات يعتبر دليلا واضحاً على أنّها نابعة من علم اللهوعلى هذا الأساس فإِن الشاهد على صدق ادعاء النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو الآيات القرآنية ،ولا يحتاج إِلى دليل آخر لإِثبات دعوته ،فلو لم يكن محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتلقى الوحي من قبل الله سبحانه وتعالى لما أمكنه أبداًوهو المعروف بالأُميأن يأتي بكتاب كالقرآن يشتمل على أرفع وأسمى التعاليم والفلسفات والقوانين والمبادئ الأخلاقية والبرامج الاجتماعية .
والقرآن الكريم يؤكّد أن ليس الله وحده الذي يشهد بأن دعوة محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم )هي الحق ،بل يشهد معه ملائكته بأحقّية هذه الدعوة ،مع أن شهادة الله كافية وحدها في هذا المجال تقول الآية الكريمة: ( والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً ) .
ويجبهناالإِنتباه إِلى عدّة أُمور ،وهي:
1إِنّ بعض المفسّرين فهموا من عبارة ( إِنا أوحينا إِليك الكتاب كما أوحينا ...) إِنّها تهدف إِلى بيان حقيقة من النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي أنّ جميع الخصائص التي وردت في الشرائع السماوية التي نزلت على الأنبياء قبله ،جاءت مجتمعة في الشريعة التي أنزلها الله عليه ،وإِنّ كل خصلة اتصف بها عباد الله الصالحون هي موجودة فيه( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وقد أشارت بعض الروايات الواردة عن أهل البيت( عليهم السلام ) إِلى هذا الموضوع أيضاً فكان ما استلهمه المفسّرون من هذه الآية نابعاً أو مستنداً على تلك الروايات{[935]} .
2نقرأ في الآيات الأخيرة أنّ الزبور من الكتب السماوية أنزله الله على داودولا يتنافي هذا مع ما ورد من أنّ الأنبياء أُولي العزم الذين نزلت عليهم كتب من الله هم خمسة أنبياء فقط ،حيث إن الآيات القرآنية والروايات الإِسلامية توضح أن الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء كانت على نوعين ،هما:
النّوع الأوّل: الكتب التي اشتملت على الأحكام التشريعية ،حيث أن كل كتاب من هذه الكتب قد أعلن عن شريعة جديدة ،وأن هذه الكتب السماوية هي خمسة فقط نزلت على خمسة أنبياء هم «أولوا العزم » .
النّوع الثّاني: الكتب التي لم تحتو على أحكام جديدة ،بل كان فيها الحكم والنصائح والإِرشادات والوصايا وأنواع الدعاء ،وكتاب «الزبور » الذي نزل على داود( عليه السلام ) من هذا النّوع الثّاني من الكتب السماويةو«مزامير داود » أو «زبور داود » الذي ورد اسمه في «العهد القديم » دليل على هذا الأمر الذي أثبتناه ،مع العلم أنّ كتاب «العهد القديم » لم يسلم من التحريف ،كما لم تسلم كتب العهد الجديد والقديم الأخرى من التحريف أيضاً ،إِلاّ أنّ ما يمكن قوله هو أنّ هذه الكتب قد احتفظت نوعاً ما بشكلها القديم .
وكتاب «مزامير داود » يشتمل على مائة وخمسين فصلا ،يسمى كل فصل منه «مزموراً » وهو من أوّله إِلى آخره يشتمل على صنوف النصح والإِرشاد والدعاء والمناجاة .
ونقل عن أبي ذر( رضي الله عنه ) أنّه سأل النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن عدد الأنبياء فأجابه النّبي: بأن عددهم يبلغ مائة وأربعاً وعشرين ألفاً ،فسأل أبو ذر( رضي الله عنه ) عن عدد الرسل من بين هؤلاء الأنبياءفأجابه النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): بأن عددهم هو ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا والباقون كلهم أنبياء ...فسأل أبو ذر مرة أُخرى عن عدد الكتب السماوية التي نزلت على أولئك الأنبياء والرسل ،فأجابه النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ): بأنّها مئة وأربع كتب ،نزل عشرة منها على آدم ،ونزل خمسون منها على شيث ،وثلاثون على إِدريس ،وعشرة كتب على إِبراهيم ،حيث يصبح مجموع هذه الكتب مئة كتاب ،والأربعة الأخرى هي التوراة ،والإِنجيل والزبور والقرآن{[936]} .
3إِنّ عبارة «أسباط » هي صيغة للجمع ومفردها «سبط » ومعناها طوائف بني إِسرائيل ،ولكن المقصود منها في الآية هم الأنبياء الذين بعثوا من هذه الطوائف{[937]} .
4لقد كان نزول الوحي على الأنبياء يتمّ بصور مختلفة ،فمرّة ينزل بالوحي ملك من الملائكة المكلفين به وأحياناً يلقي الوحي على النّبي بواسطة الإِلهام القلبي ،وأُخرى ينزل بصورة صوت يسمعه النّبي ،أي أن الله يخلق الأمواج الصوتية في الفضاء أو الأجسام فيسمعها أنبياؤه وبهذه الواسطة كان يتمّ التخاطب بينهم وبين الله سبحانه وتعالى .
ومن الذين حظوا بمزية التخاطب مع الله النّبي موسى بن عمران( عليه السلام ) ،فكان يسمع الصوت ،أحياناً من شجرة وادي الأيمن ،وأحياناً في جبل طور ،ولذلك لقب هذا النّبي بلقب «كليم الله » ،ولعل مجيء اسم النّبي موسى( عليه السلام ) في الآيات الأخيرة بصورة منفصلة كان من أجل بيان هذه الخصيصة التي امتاز بها موسى( عليه السلام )على غيره من أنبياء الله( عليهم السلام ) .