/م171
ثم يحاسبهم ويجزيهم كما يجزي غيرهم على النحو المبين في قوله:{ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} أي يعطيهم أجورهم على إيمانهم وعملهم الصالح وافية تامة كما يستحقون بحسب سنته تعالى في ترتيب الجزاء على تأثير الإيمان والعمل في النفس ، ويزيدهم عليه من محض فضله وجوده من عشرة أضعاف إلى سبع مئة ضعف – إلى ما شاء ( وتقدم الكلام في المضاعفة في تفسير سورة البقرة ) .
{ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما} أي فيعذبهم عذابا مؤلما كما يستحقون بحسب سنته تعالى أيضا ، ولكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئا ، لأن الرحمة سبقت الغضب ، فهو تعالى يجازي المحسن بالعدل والفضل ، ويجازي المسيء بالعدل فقط{ ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} أي ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يتولى شيئا من أمرهم يوم الجزاء والحساب ، ولا نصيرا ينصرهم فيدفع العذاب ،{ يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} [ الانفطار:19] .
ومن مباحث اللفظ والإعراب في الآية إفراد فعل يستنكف وما عطف عليه مراعاة لفظ ( من ) وجمع ( فسيحشرهم ) مراعاة لمعناها فإنها من صيغ العموم ( ومنها ) مسألة مطابقة التفصيل في هذه الآية للمفصل المذكور بصيغة العموم في آخر الآية التي قلبها .قال بعضهم إن التفصيل للمجازاة لا للمحشورين المجزيين فلا حاجة إلى المطابقة وذلك أن الجزاء لازم للحشر فبينه عقبه ، واختار هذا البيضاوي ورده السعد .
وقال الزمخشري هو مثل قولك جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ( أي أعطاه ما يركبه ) ومن خرج نكل به .وصحة ذلك لوجهين أحدهما:أن يحذف أحد الفريقين لدلالة الآخر عليه ، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني ، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا{ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به} [ النساء:175] والثاني:هو أن الإحسان إلى غيرهم مما يفهمهم فكان داخلا في جملة التنكيل بهم .فكأنه قيل ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين ، وبما يصيبه من عذاب الله اه أقول وقد يدل على حشر المستنكفين مع غيرهم قوله تعالى:{ جميعا} كما أشرنا إليه .
ثم وجه آخر وهو القرآن كثيرا ما يذكر بصيغة العاملين مبتدأ يكون خبره محذوفا لدلالة الكلام أو القرينة عليه ولاسيما إذا كان شرطا كما هنا وكان جزاؤه كلاما عاما يشير إلى الخير إشارة ضمنية كقوله تعالى:{ ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} [ الأنفال:5] وقوله:{ ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد} [ الحديد:24] ولا يبعد أن يكون ما هنا من هذا القبيل ، والمراد:ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيجزيه إذ يحشر الناس كلهم للجزاء .ثم فصل هذا الجزاء المشار إليه لازمه ، والله أعلم .