{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} أكد تعالى بالقسم أيضا كفر الذين قالوا إن الله هو خالق السماوات والأرض وما بينهما ثالث أقانيم ثلاثة ، وهي الأب والابن وروح القدس ، قال ابن جرير:وهذا قول كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكانية والنسطورية .كانوا فيما بلغنا يقولون:الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم – أبا والدا غير مولود ، وابنا مولودا غير والد ، وزوجا متتبعة بينهما .اه فكان هو وكثير من المفسرين والمؤرخين المتقدمين يرون – بحسب معرفتهم بحال نصارى زمنهم وما يروون عمن قبلهم – أن الذين يقولون من النصارى إن إلههم ثالث ثلاثة ؛ هم غير الفرقة التي تقول منهم:إن الله هو المسيح ابن مريم .وأن ثم فرقة ثالثة تقول:إن المسيح هو ابن الله وليس هو الله ، ولا ثالث ثلاثة .وأما النصارى المتأخرون فالذي نعرفه منهم وعنهم أنهم يقولون بالثلاثة الأقانيم ، بأن كل واحد منها عين الآخر .فالأب عين الابن وعين روح القدس ، ولما كان المسيح هو الابن كان عين الأب وروح القدس أيضا .ومن العجيب أن بعض متأخري المفسرين ينقلون أقوال من قبلهم في أمثال هذه المسائل ويقرونها ، ولا يبحثون عن حال أهل زمنهم ، ولا يشرحون حقيقة عقيدتهم .وقد سبق لنا بيان عقيدة التثليث ، وكون النصارى أخذوها عن قدماء الوثنين ، فارجع إلى تفسير{ ولا تقولوا ثلاثة} في أواخر سورة النساء ( ج 6 تفسير ) وبينا قبليها عقيدة الصلب والفداء ( ج6 تفسير ) ثم بينا عقيدة التثليت في تفسير الآية ال 19 من السورة ( ج 6 تفسير ) .
قال تعالى ردا عليهم{ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي قالوا قولهم هذا بلا روية ولا بصيرة ، والحال أنه ليس في الوجود ثلاثة آلهه ولا اثنان ولا أكثر من ذلك – لا يوجد إله ما إلا إله متصف بالوحدانية .وهو الله الذي لا تركيب في ذاته ولا تعدد .
وهذه العبارة أشد تأكيدا لنفي تعدد الإله من عبارة:لا إله إلا إله واحد .لأن ( من ) بعد ( ما ) تفيد استغراق النفي وشموله لكل نوع من أنواع المتعدد كل فرد من أفراده ؛ فليس ثم تعداد ذوات وأعيان ، ولا تعدد الأجناس والأنواع ، ولا تعدد جزئيات أو أجزاء .والنصارى قد اقتبسوا عقيدة التثليث عمن قبلهم ولم يفهموها ، وعقلاؤهم يتمنون لو يقدرون على التفصي منها ، ولكنهم إذا أنكروها بعد هذه الشهرة تبطل ثقة العامة بالنصرانية كلها .كما قال أحد عقلاء القسوس لبعض أهل العلم العصري من الشبان السوريين .
ومن الغريب أنهم يعترفون بأن هذه العقيدة لا تعقل ، ولكن بعضهم يحاول تأنيس النفوس بها ، بضرب أمثلة لا تصدق عليها ، ككون الشمس مركبة من الجرم المشتعل والنور والحرارة ، قال الشيخ ناصيف اليازجي .
نحن النصارى آل عيسى المنتمي *** حب التأنس للبتولة (؟ ) مريم
فهو الإله ابن الإله وروحه *** فثلاثة في واحد لم تقسم
للآب لاهوت ابنه كذا ابنه *** وكذاهما والروح تحت تقنم
كالشمس يظهر جرمها بشعاعها *** وبحرها والكل شمس فاعلم
فهو يقول إن ربهم جوهر له أعراض كسائر الجواهر والأجسام .ولكن العرض ليس عين الذات .فحرارة الشمس ليست شمسا ، ولا هي عين الجرم ولا عين الضوء .فإذا لا يصح أن يكون الابن وروح القدس عين الآب ! ! وقد أورد صاحب إظهار الحق الحكاية الآتية ، في بيان تخبطهم في هذه المسألة .قال:
( نقل أنه تنصر ثلاثة أشخاص وعلمهم بعض القسيسين العقائد الضرورية سيما عقيدة التثليث .وكانوا في خدمته ، فجاء محب من أحباء هذا القسيس وسأله عمن تنصر فقال:
ثلاثة أشخاص تنصروا ، فسأل هذا المحب:هل تعلموا شيئا من العقائد الضرورية ؟ فقال:نعم ، وطلب واحدا منهم ليرى محبه ، فسأله عن عقيدة التثليث فقال:إنك علمتني أن الآلهة ثلاثة ، أحدهم الذي هو في السماء ، والثاني الذي تولد من بطن مريم العذراء ، والثالث الذي نزل في صورة الحمامة على الإله الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة .فغضب القسيس وطرده وقال هذا مجهول ، ثم طلب الآخر منهم وسأله فقال:إنك علمتني أن الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم فالباقي إلهان .فغضب عليه القسيس أيضا وطرده ، ثم طلب الثالث وكان ذكيا بالنسبة إلى الأولين وحريصا في حفظ العقائد فسأله ، فقال:يا مولاي حفظت ما علمتني حفظا جيدا ، وفهمت فهما كاملا ، بفضل السيد المسيح:إن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد ، وصلب واحد منهم ومات ، فمات الكل لأجل الاتحاد .
أقول:لا تقصير للمسؤولين فإن هذه العقيدة يخبط فيها الجهلاء هكذا ويتحير علماؤهم ويعترفون بأنا نعتقد ولا نفهم ، ويعجزون عن تصويرها وبيانها .ه
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وإن لم ينتهوا عن قولهم بالتثليث ويتركوه ، ويعتصموا بعروة التوحيد الوثقى ويعتقدوه ، فوالله ليصيبنهم بكفرهم عذاب شديد الألم في الآخرة .فوضع ( الذين كفروا ) موضع الضمير ليثبت أن ذلك القول كفر بالله ، وإن الكفر سبب العذاب الذي توعدهم به ، ويبين أن هذا العذاب لا يمس إلا الذين كفروا منهم خاصة بالتثليث أو غيره ، دون من تاب وأناب إلى الله تعالى ، إذ ليس عذاب الآخرة كعذاب الأمم في الدنيا يشترك فيه المذنبون وغيرهم .وقيل إن ( من ) بيانية .