ولما كان كون أمر المستهزئين بالرسل إلى الهلاك بحسب سنة الله المطردة فيهم مما يرتاب فيه مشركو مكة الذين يجهلون التاريخ ، ولا يأخذون خبر الآية فيه بالتسليم ، أمر الله تعالى رسوله بأن يدلهم على الطريق الذي يوصلهم إلى علم ذلك بأنفسهم فقال:{ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ( 11 )} أي قل أيها الرسول للمكذبين بك من قومك – الذين قالوا:لولا أنزل عليه ملك – سيروا في الأرض كشأنكم وعادتكم ، وتنقلوا في ديار أولئك القرون الذين مكناهم في الأرض ومكنا لهم فيها ما لم نمكن لكم ، ثم انظروا في أثناء كل رحلة من رحلاتكم آثار ما حل بهم من الهلاك ، وتأملوا كيف كانت عاقبتهم بما تشاهدون من آثارهم ، وما تسمعون من أخبارهم .وإنما قال:« عاقبة المكذبين » ولم يقل « عاقبة المستهزئين » أو الساخرين – والكلام الأخير في هؤلاء لا في جميع المكذبين – لأن الله تعالى أهلك من القرون الأولى جميع المكذبين ، وإن كان السبب المباشر للإهلاك اقتراح المستهزئين الآيات الخاصة على الرسل ، فلما أعطوها كذب بها المستهزئون المقترحون وغيرهم من الكافرين الذين كانوا مشغولين بأنفسهم ومعايشهم عن مشاركة كبراء مترفيهم بالاستهزاء والسخرية ، وإذا كان المكذبون قد استحقوا الهلاك وإن لم يستهزئوا ولم يسخروا فكيف يكون حال المستهزئين والساخرين ؟ لا ريب أنهم أحق بالهلاك وأجدر ، ولذلك أهلك الله المستهزئين من قوم نبي الرحمة ولم يجبهم إلى ما اقترحوه لئلا يعم شؤمهم سائر المكذبين معهم ، ومنهم المستعدون للإيمان الذين اهتدوا من بعد .
ومن نكت البلاغة في الآية أنه قال فيها:« ثم انظروا » وقد ورد الأمر بالسير في الأرض والحث عليه في آيات أخرى من عدة سور ، وعطف عليه الأمر بالنظر بالفاء ( راجع 99 من سورة النمل و 42 من سورة الروم و 109 من سورة يوسف و44 من سورة فاطر الخ ) قال الزمخشري في نكتة الخلاف بين التعبيرين:( فإن قلت ) أي فرق بين قوله:« فانظروا » وقوله:« ثم انظروا » قلت:جعل النظر مسببا عن السير في قوله:« فانظروا » فكأنه قيل سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين .وأما قوله:« سيروا في الأرض ثم انظروا » فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ، ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح اه .
وقال أحمد بن المنير في الانتصاف:وأظهر من هذا التأويل أن يجعل الأمر في المكانين واحدا ليكون ذلك سببا في النظر ، فحيث دخلت الفاء فلإظهار السببية وحيث دخلت ثم فللتنبيه على أن النظر هو المقصود من السير ، وأن السير وسيلة إليه لا غير ، وشتان بين المقصود والوسيلة .والله أعلم اه .
وفي روح المعاني عن بعضهم أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا:« ثم انظروا » وفي غير ما موضع « فانظروا » لأن المقام هنا يقتضي « ثم » دونه في هاتيك المواضع ، وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه{ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض} [ الأنعام:6] مع قوله سبحانه وتعالى:{ وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرون} [ الأنعام:6] والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة ، والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضا كثيرون ، فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك ، فيكون المراد به استقراء البلاد ، ومنازل أهل الفساد على كثرتها ، ليروا الآثار في ديار بعد ديار ، وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقب الذي تقتضيه الفاء ، ولا كذلك في المواضع الأخر اه .
قال الألوسي بعد إيراده:ولا يخلوا عن دغدغة ، واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارة نظرا إلى آخره ، وبثم أخرى نظرا إلى أوله ، وكذا شأن كل ممتد .اه ما أورده الألوسي .والظاهر في الأخير أن يكون العطف بالفاء نظرا إلى الأول وبثم نظرا إلى الآخر عكس ما ذكره فتأمل .
ثم أقول:ولعل من يتأمل ما وجهنا به الكلام في تفسير الآية ، قبل النظر في هذه النكت كلها يرى أنه هو المتبادر من النظم بغير تكلف ، وأنه يشبه أن يكون مستنبطا من مجموع تلك النكت ، مع زيادة عليها تقتضيها حال المخاطبين بالأمر بالسير هنا وهم كفار مكة المعاندون الكثيرو الأسفار للتجارة الغافلون عن شؤون الأمم والاعتبار بعاقبة الماضين وأحوال المعاصرين .