/م95
{ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا} جمع تعالى في هذه الآية المنزلة بين ثلاث آيات سماوية ، بعد الجمع فيما قبلها بين ثلاث آيات أرضية ، ( فالآية الأولى ) فلق الإصباح ، والمراد به الصبح وأصله مصدر «أصبح الرجل » إذا دخل في وقت الصباح ومن الشواهد عليه قول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي *** بصبح وما الإصباح منك بأمثل{[979]}
وقرأ الحسن بفتح الهمزة وأنشد قول الشاعر:
أفنى رياحا وبني رياح *** تناسخ الإمساء والإصباح
بالكسر والفتح – مصدرين ، وجمع مساء وصبح .وفلق الإصباح عبارة عن فلق ظلمة الليل وشقها بعمود الصبح الذي يبدو في جهة مطلع الشمس من الأفق مستطيلا ، فلا يعتد به حتى يصير مستطيرا ، تتفرى الظلمة عنه من أمامه وعن جانبيه إلى أن تنقشع وتزول ، ولذلك سمي فجرا فإن الفجر بمعنى الفلق كما تقدم آنفا .والله تعالى هو فالق الإصباح بنور الشمس الذي يتقدمها ، إذ هو خالقها ومقدر مواقع الأرض منها في سيرها ، كما نبينه في الآية الثالثة من آيات هذه الآية فإنها معللة للآيتين قبلها ، والمراد من التذكير بالآية الأولى التأمل في صنع الله بتفري الليل إذا عسعس ، عن صبحه إذا تنفس ، وإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود ، ومبدأ زمن تقلب الأحياء في القيام والقعود ، والركوع والسجود ، ومضيهم في تجلي النهار ، إلى ما يسروا له من الأعمال ، وما لله في ذلك من نعم وحكم وأسرار .ويدل على ذلك ذكر الآية الثانية بفائدتها ، وهي آية الليل يجعله الله سكنا ، فهذا المذكور ، يدل على مقابلة المحذوف وهو جعل النهار وقتا للحركة بالسعي للمعاش ، والعمل الصالح للمعاد .
وقد صرح بنوعي الفائدتين في آيات كقوله تعالى:{ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} [ القصص:73] فهذه الآية على إيجازها جامعة للفوائد الدنيوية والدينية ، وفيها اللف والنشر ، أي لتسكنوا في الليل وتطلبوا الرزق من فضل الله في النهار ، وليعدكم لشكر نعمه عليكم بهما ، وبمنافعكم في كل منهما ، ومن الآيات المصرحة بذكرهما ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدنيوية فقط كقوله تعالى:{ وجعلنا الليل لباسا ، وجعلنا النهار معاشا} [ النبأ:10] ومنها ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدينية فقط كقوله تعالى:{ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} [ الفرقان:62] فيا لله من إيجاز القرآن وبلاغته في اختلاف عبارته! !
قرأ عاصم والكسائي «وجعل الليل » بالفعل الماضي وقرأه الجمهور بصيغة اسم الفاعل «وجاعل » ورسمهما في المصحف الإمام واحد ، والأولى تقوي جانب الإعراب فإن الشمس والقمر المعطوفين على الليل منصوبان بإجماع القراء ، ولا يظهر نصبهما على القراءة الثانية إلا بتقدير جعل ، أو جعل «جاعل » بمعناه ، وهو تكلف يجتنب في الفصيح .والثانية تناسب السياق والنسق بعطف الاسم على الاسم وهو الأصل الذي لا يخرج عنه في الفصيح إلا لنكتة .فبالجمع بين القراءتين زال التكلف وتم التناسب ، فيالله من فصاحة القرآن في عبارته ، واختلاف قراءته! !
والسكن بالتحريك السكون وما يسكن فيه من مكان كالبيت وزمان كالليل ، وكذا ما يسكن إليه ، وهو ما اختاره الكشاف هنا قال:السكن ما يسكن إليه الرجل ( أي وغيره ) ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه من زوج أو حبيب ، ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها ، ألا تراهم سموها المؤنسة ، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه .ويجوز أن يراد وجعل الليل مسكونا فيه من قوله:« لتسكنوا فيه ) اه .وهذا الأخير المرجوح عنده هو الراجح المختار عندنا إلا أنه يجوز الجمع بينهما ، ودليل الترجيح نص ( لتسكنوا فيه ) وكون السكون فيه أعم وأظهر من السكون إليه ، فإن كثيرا من الناس يستوحشون من الليل ولا يأنسون به ، وإن كان له على آخرين أياد جلية أو خفية ، تنقض مذهب المانوية ، فيستطيله المرضى والمهمومون والمهجورون ، ويستقصره العابدون الواصلون ، والعاشقون الموصولون ، فذاك يقول ما أطوله ويطلب انجلاءه ، وهذا يقول ما أقصره ويتمنى بقاءه:
يود أن سواد الليل دام له *** ويزيد فيه سواد القلب والبصر
والمراد بالسكون فيه ما يعم سكون الجسم وسكون النفس .أما سكون الجسم فبراحته من تعب بالنهار ، وأما سكون النفس فبهدوء الخواطر والأفكار ، والليل زمن السكون لأنه لا يتيسر فيه من الحركة وأنواع الأعمال ما يتيسر في النهار ، لما خص به الأول من الإظلام والثاني من الإبصار ،{ وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب} [ الإسراء:12] فأكثر الأحياء من إنسان وحيوان تترك العمل والسعي في الليل ، وتأوي إلى مساكنها للراحة التي لا تتم وتكمل إلا بالنوم ، الذي تسكن به الجوارح والخواطر ببطلان حركتها الإرادية ، كما تسكن به الأعضاء الرئيسية سكونا نسبيا بقلة حركتها الطبيعية ، فتقل نبضات القلب بوقوفها بين كل نبضتين ، ويقل إفراز خلايا الجسم للسوائل والعصارات التي تفرزها ، ويبطئ التنفس ويقل ضغط الدم في الشرايين ولا سيما في أول النوم إذ تكون الحاجة إلى الراحة به على أشدها ، ويضعف الشعور حتى يكاد يكون مفقودا ، فيستريح الجهاز العصبي ، ولا سيما الدماغ والحبل الشوكي ، وتستريح جميع الأعضاء باستراحته ، وتقل الفضلات التي تنحل من البدن وتكثر الدقائق التي تتكون من الدم لتحل محلها .وإنما تكثر الفضلات وانحلال الذرات بكثرة العمل ، فالعمل العقلي يجهد الدماغ والعضلي يجهد الأعضاء العاملة فتزداد الحرارة ويكثر الاحتراق بحسب كثرة العمل وتكون الحاجة إلى الراحة بالنوم بقدر ذلك ، وقد علل النوم تعليلات كثيرة ولما يصل العلماء إلى كشف سره ، واستجلاء كنه سببه .
وأما الآية الثالثة الكونية في الآية فهي جعل الشمس والقمر حسبانا أي علمي حساب ، لأن طلوعهما وغروبهما وما يظهر من تحولاتهما واختلاف مظاهرهما كل ذلك بحساب ، كما قال تعالى:{ الشمس والقمر بحسبان} [ الرحمان 3] فما هنا بمعنى آية الإسراء ( 17:12 ) التي ذكرت آنفا وآية يونس{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} [ يونس:5] فالحساب بالكسر والحسبان بالضم مصدران لحسب يحسب ( من باب نصر ) وهو استعمال العدد في الأشياء والأوقات .وأما الحسبان بالكسر فهو مصدر حسب ( بوزن علم ) وفضل الله تعالى في ذلك عظيم فإن حاجة الناس إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم لا تخفى على أحد منها في جملتها ، وعند خواص العلماء من ذلك ما ليس عند غيرهم ، وعلماء الفلك والتقاويم متفقون في هذا العصر على أن للأرض حركتين:حركة تتم في 24 ساعة وهي مدار حساب الأيام ، وحركة تتم في سنة وبها يكون اختلاف الفصول وعليها مدار حساب السنين الشمسية ، ولعلنا نشرح هذا في تفسير سورة يونس وغيرها .
{ ذلك تقدير العزيز العليم} أي ذلك الجعل العالي الشأن ، البعيد المدى في الإبداع والإتقان ، فوق بعد النيرات عن الإنسان ، المترتب على ما ذكر من سبب اختلاف الأيام والفصول وتقدير السنين الشمسية ، ومن تشكلات القمر التي نعرف بها الشهور القمرية ، هو تقدير الخالق الغالب على أمره في تنظيم ملكه ، الذي وضع المقادير والأنظمة الفلكية وغيرهما بما اقتضاه واسع علمه ، فهذا النظام والإبداع من آثار عزته وعلمه عز وجل ، فليس في ملكه جزاف ولا خلل ، ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) .
/خ99