{ قالوا يا موسى إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين} استئناف بياني كنظائره أي قال السحرة لموسى عليه السلام بعد أن وعدهم فرعون ما وعدهم:إما أن تلقي ما عندك أولا ، وإما أن نكون نحن الملقين لما عندنا من دونك .أما تخييرهم إياه فلثقتهم بأنفسهم ، واعتدادهم بسحرهم ، أو إرهابا له ، وإظهارا لعدم المبالاة به ، مع العلم بأن المتأخر يكون أبصر بما تقتضيه الحال بعد وقوفه على منتهى شوط خصمه ، وما قيل من أن علة التخيير مراعاة الأدب لا وجه البتة ، بل مقامهم بحضرة ملكهم الذي يدعي الألوهية والربوبية فيهم وما طلبوه منه وما وعدهم إياه –كله يقتضي أن يحتقروا خصمه لا أن يتأدبوا معه كما يتأدب أهل الصناعة الواحدة بعضهم مع بعض إذا تلاقوا للمباراة وهو ما وجه الزمخشري به التعليل ، وما قاله البيضاوي وغيره من أن علته إظهار التجلد فضعيف إذ لم يروا من موسى شيئا بأعينهم يقتضيه وإنما سمعوا أنه ألقى عصاه بحضرة فرعون فصارت ثعبانا فاستعدوا لمقابلته بعصي وحبال كثيرة يخيل إليه وإلى كل ناظر أنها ثعابين تسعى فيطلبون سحره بسحر مثله كما قال ملكهم{ فلنأتينّك بسحر مثله} [ طه:58] .
وذهب الزمخشري ومن تبعه إلى أن هذا التعبير عن إلقائهم يدل على رغبتهم في البدء بما ينبئ عنه تغييرهم للنظم بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل"نحن "وتوكيد الضمير المستتر به .وفي سورة طه{ إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى} [ طه:65] وفيه من التوكيد ما يدل على الرغبة في الأولية التي صرحوا بذكرها هنا .فلا فرق بين التعبيرين في المعنى فلا بأس حينئذ بجعل الاختلاف اللفظي في الحكاية عنهم لمراعاة الفواصل ، وقد اختلف فيه على أقوال ثالثها وهو الصحيح المعتمد أنه جائز وواقع فيما لا يخل بأداء المعنى ، ولا ينافي البلاغة العليا ، فكيف إذا كان مزيد تفنن قد يصل إلى حد الإعجاز فيها ، وذلك أن تأدية دقائق المعاني مكررة بألفاظ مختلفة في منتهى العسر وكثيرا ما يكون متعذرا ، فلو لم يؤكد الضمير المتصل هاهنا بالضمير المنفصل"نحن "لما أفاد معنى الرغبة في أولية الإلقاء المصرح به في سورة طه ، وبذلك علم أن مراعاة الفاصلتين في الموضعين هو الذي وحد بينهما بجعل كل منهما دالا على رغبة السحرة في التقدم والأولية ، فأي خطيب أو كاتب يقدر على إفادة هذا المعنى بأسلوبين مختلفين في اللفظ من غير تصريح به ، وأي مترجم تركي أو إفرنجي يفقه هذا ويؤديه في ترجمته للقرآن ؟