{ وإن تولّوا} وأعرضوا عن سماع تبليغكم ولم ينتهوا عن كفرهم وفتنتهم وقتالهم لكم{ فاعلموا أن الله مولاكم} أي فأيقنوا أن الله تعالى هو ناصركم ومتولي أموركم فلا تبالوا بهم ولا تخافوا فهو{ نعم المولى ونعم النّصير} هو ، فلا يضيع من تولاه ولا يغلب من نصره .
فإن قيل:إن انتصار المسلمين في القرون الأولى كان لأسباب اجتماعية فلما تغيرت هذه الأسباب خانهم النصر حتى فقدوا أكثر ممالكهم ، وإننا لنرى الأمم ينتصر بعضها على بعض بالاستعداد المادي من سلاح وعتاد وبالنظام الحربي الذي جهله المسلمون بغرورهم بدينهم واتكالهم على خوارق العادات ، وقراءة الأحاديث والدعوات ، ولذلك تركه ساسة الترك وأسسوا لأنفسهم حكومة مدنية إلحادية تناهض الإسلام ، ويوشك أن يتبعهم ساسة المصريين والأفغان .
قلنا:إن ما ذكره المعترض وهو واقع لا مفروض- حجة على المسلمين المتأخرين لا على الإسلام ، فالإسلام يأمر بإعداد القوى المادية ، ويضيف إليها القوى المعنوية ، ومنها بل أعظمها الإيمان بالله ودعاؤه والاتكال عليه باتفاق العقلاء حتى الماديين منهم ، ولم يشرع للناس الاتكال على خوارق العادات ، حتى في أيام الرسول المؤيد بالآيات البينات ، ولما غلب المسلمون في وقعة أحد لتقصيرهم في الأسباب وتعجبوا من ذلك أنزل الله تعالى:{ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم} [ آل عمران:165] قد وفينا هذا البحث حقه في تفسير هذه الآية وأمثالها من الآيات التي نزلت لتلك الغزوة من سورة آل عمران وسنعود إليه في تفسير آية{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [ الأنفال:60] وغيرها من هذه السورة قريبا إن شاء الله تعالى .
وما أضعف الترك والمصريين وغيرهم من شعوب المسلمين إلا تركهم لهداية القرآن في مثل هذا وغيره من إقامة العدل والفضائل وسنن الله في الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح ، واستبداد حكامهم فيهم ، وإنفاق أموال الأمة والدولة فيما حرم الله عليهم من الإسراف في شهواتهم ، وقد اتبع الإفرنج تعاليم الإسلام في الاستعداد للحرب وفي غير ذلك من سنن الله في العمران ، فرجحت بهم كفة الميزان ، وسيتبعونها في الأمور الروحية ، بعد أن تبرح بهم التعاليم المادية والبلشفية ، ويتفاقم فسادهم في أممهم ، حتى تخرّب بيوتهم بأيديهم ، من حيث فقد المسلمون الجغرافيون النوعين كليهما من تعاليمه ، وقام الجاهلون منهم يحتجون عليه ، بما أفسدوا وابتدعوا فيه ونسبوه إليه ، وهو حجة عليهم وعلى جميع الخلق .
وأما الأمور الاجتماعية التي مكنت سلف المسلمين من فتح بلاد كسرى وقيصر وغيرهما من الشعوب فهي أكبر حجة للإسلام أيضا ، إذ ليست تلك الأمور إلا ما كان أصاب تلك الشعوب من الشرك وفساد العقائد والآداب ، ومساوئ الأخلاق والعادات ، من فشو الفواحش والمنكرات ، وسلطان البدع والخرافات ، التي جاء الإسلام لإزالتها ، واستبدل التوحيد والفضائل بها ، ولهذا وحده نصرهم الله على الأمم كلها ، إذ لا خلاف بين أهل العلم والتاريخ في أن العرب كانوا دون تلك الشعوب كلها في الاستعداد الحربي المادي ، فلم يبق لهم ما يمتازون به إلا إصلاح الإسلام المعنوي .ولما أضاع جماهير المسلمين هذه العقائد والفضائل ، واتبعوا سنن تلك الأمم من البدع والرذائل- وهو ما حذرهم الإسلام منه- ثم قصروا في الاستعداد المادي للنصر في الحرب ففقدوا النوعين منه ، عاد الغلب لغيرهم عليهم .
فنسأله تعالى هداية هذه الأمة ، وكشف ما هي فيه من غمة ، لتستحق نصره باتباع شرعه ، ومراعاة سننه في خلقه ، وبتقواه المثمرة للفرقان في العلوم والأحكام والأعمال ، فيعود لها ما فقدت من الملك والسلطان اللهم آمين .
تم تفسير الجزء التاسع كتابة وتحريرا بفضل الله وحوله وقوته
في أواخر شهر شعبان سنة 1346 ونسأله الإعانة والتوفيق لإتمام ما بعده ولله الحمد والشكر أولا وآخرا .