لما ذكر تعالى حزب السعداء ، وهم الأنبياء ، عليهم السلام ، ومن اتبعهم ، من القائمين بحدود الله وأوامره ، المؤدين فرائض الله ، التاركين لزواجره - ذكر أنه ( خلف من بعدهم خلف ) أي:قرون أخر ، ( أضاعوا الصلاة ) - وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع ; لأنها عماد الدين وقوامه ، وخير أعمال العباد - وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، فهؤلاء سيلقون غيا ، أي:خسارا يوم القيامة .
وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة هاهنا ، فقال قائلون:المراد بإضاعتها تركها بالكلية ، قاله محمد بن كعب القرظي ، وابن زيد بن أسلم ، والسدي ، واختاره ابن جرير . ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد ، وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة ، للحديث:"بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة "، والحديث الآخر:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر ". وليس هذا محل بسط هذه المسألة .
وقال الأوزاعي ، عن موسى بن سليمان ، عن القاسم بن مخيمرة في قوله:( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة ) ، قال:إنما أضاعوا المواقيت ، ولو كان تركا كان كفرا .
وقال وكيع ، عن المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، والحسن بن سعد ، عن ابن مسعود أنه قيل له:إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن:( الذين هم عن صلاتهم ساهون ) و ( على صلاتهم دائمون ) و ( على صلاتهم يحافظون ) ؟ قال ابن مسعود:على مواقيتها . قالوا:ما كنا نرى ذلك إلا على الترك ؟ قال:ذاك الكفر .
وقال مسروق:لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس ، فيكتب من الغافلين ، وفي إفراطهن الهلكة ، وإفراطهن:إضاعتهن عن وقتهن .
وقال الأوزاعي ، عن إبراهيم بن يزيد:أن عمر بن عبد العزيز قرأ:( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) ، ثم قال:لم تكن إضاعتهم تركها ، ولكن أضاعوا الوقت .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد:( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ) قال:عند قيام الساعة ، وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ينزو بعضهم على بعض في الأزقة ، وكذا روى ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وروى جابر الجعفي ، عن مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء بن أبي رباح:أنهم من هذه الأمة ، يعنون في آخر الزمان .
وقال ابن جرير:حدثني الحارث ، حدثنا الحسن الأشيب ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد:( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ) ، قال:هم في هذه الأمة ، يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق ، لا يخافون الله في السماء ، ولا يستحيون الناس في الأرض .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا حيوة ، حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني:أن الوليد بن قيس حدثه ، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يكون خلف بعد ستين سنة ، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، فسوف يلقون غيا . ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم . ويقرأ القرآن ثلاثة:مؤمن ، ومنافق ، وفاجر ". قال بشير:قلت للوليد:ما هؤلاء الثلاثة ؟ قال:المؤمن مؤمن به ، والمنافق كافر به ، والفاجر يأكل به .
وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن ، المقرئ ، به
وقال ابن أبي حاتم أيضا:حدثني أبي ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا عيسى بن يونس ، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب ، عن مالك ، عن أبي الرجال ، أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصفة ، وتقول:لا تعطوا منه بربريا ولا بربرية ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"هم الخلف الذين قال الله تعالى:( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة ) . هذا حديث غريب .
وقال أيضا:حدثني أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك ، حدثنا الوليد ، حدثنا حريز ، عن شيخ من أهل المدينة; أنه سمع محمد بن كعب القرظي يقول في قوله:( فخلف من بعدهم خلف ) الآية ، قال:هم أهل الغرب ، يملكون وهم شر من ملك .
وقال كعب الأحبار:والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل:شرابين للقهوات تراكين للصلوات ، لعابين بالكعبات ، رقادين عن العتمات ، مفرطين في الغدوات ، تراكين للجمعات قال:ثم تلا هذه الآية:( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) .
وقال الحسن البصري:عطلوا المساجد ، ولزموا الضيعات .
وقال أبو الأشهب العطاردي:أوحى الله - تعالى - إلى داود:يا داود ، حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات ; فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة ، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته علي أن أحرمه طاعتي .
وقال الإمام أحمد:حدثنا زيد بن الحباب حدثنا أبو السمح التميمي ، عن أبي قبيل ، أنه سمع عقبة بن عامر قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أخاف على أمتي اثنتين:القرآن واللبن ، أما اللبن فيتبعون الريف ، ويتبعون الشهوات ويتركون الصلوات ، وأما القرآن فيتعلمه المنافقون ، فيجادلون به المؤمنين ".
ورواه عن حسن بن موسى ، عن ابن لهيعة ، حدثنا أبو قبيل ، عن عقبة ، به مرفوعا بنحوه تفرد به .
وقوله:( فسوف يلقون غيا ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:( فسوف يلقون غيا ) أي:خسرانا . وقال قتادة:شرا .
وقال سفيان الثوري ، وشعبة ، ومحمد بن إسحاق ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود:( فسوف يلقون غيا ) قال:واد في جهنم ، بعيد القعر ، خبيث الطعم .
وقال الأعمش ، عن زياد ، عن أبي عياض في قوله:( فسوف يلقون غيا ) قال:واد في جهنم من قيح ودم .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير:حدثني عباس بن أبي طالب ، حدثنا محمد بن زياد بن زيان ، حدثنا شرقي بن قطامي ، عن لقمان بن عامر الخزاعي قال:جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي فقلت:حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال:فدعا بطعام ، ثم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ، ما بلغت قعرها خمسين خريفا ، ثم تنتهي إلى غي وآثام ". قال:قلت:وما غي وآثام ؟ قال:"بئران في أسفل جهنم ، يسيل فيهما صديد أهل النار ، وهما اللتان ذكر الله في كتابه:( أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) وقوله في الفرقان:( ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ) هذا حديث غريب ورفعه منكر .