يخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن ، وأنه المطلع على ما فيهن ، لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر ، وإن دقت وخفيت ، وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال:( قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير ) [ آل عمران:29] ، وقال:( يعلم السر وأخفى ) [ طه:7] ، والآيات في ذلك كثيرة جدا ، وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم ، وهو:المحاسبة على ذلك ، ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة ، رضي الله عنهم ، وخافوا منها ، ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها ، وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم .
قال الإمام أحمد:حدثنا عفان ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثني أبو عبد الرحمن
يعني العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة ، قال:لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ) اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جثوا على الركب ، وقالوا:يا رسول الله ، كلفنا من الأعمال ما نطيق:الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم:سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا:سمعنا وأطعنا ، غفرانك ربنا وإليك المصير ". فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم ، أنزل الله في أثرها:( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل:( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) إلى آخره .
ورواه مسلم منفردا به ، من حديث يزيد بن زريع ، عن روح بن القاسم ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، فذكر مثله ، ولفظه:"فلما فعلوا [ ذلك] نسخها الله ، فأنزل:( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال:نعم ، ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) قال:نعم ، ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال:نعم ، ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) قال:نعم .
حديث ابن عباس في ذلك:قال الإمام أحمد:حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن آدم بن سليمان ، سمعت سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال:لما نزلت هذه الآية:( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) قال:دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء ، قال:فقال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم:"قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا ". فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فأنزل الله . ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) إلى قوله:( فانصرنا على القوم الكافرين )
وهكذا رواه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي كريب ، وإسحاق بن إبراهيم ، ثلاثتهم عن وكيع ، به وزاد:( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) قال:قد فعلت ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) قال:قد فعلت ، ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال:قد فعلت ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا [ فانصرنا] ) قال:قد فعلت .
طريق أخرى عن ابن عباس:قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، قال:دخلت على ابن عباس فقلت:يا أبا عباس ، كنت عند ابن عمر فقرأ
هذه الآية فبكى . قال:أية آية ؟ قلت:( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ) قال ابن عباس ، إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا ، وغاظتهم غيظا شديدا ، يعني ، وقالوا:يا رسول الله ، هلكنا ، إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل ، فأما قلوبنا فليست بأيدينا ، فقال لهم رسول الله ، صلى الله عليه وسلم:"قولوا:سمعنا وأطعنا ". قالوا:سمعنا وأطعنا . قال:فنسختها هذه الآية:( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله ) إلى ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال .
طريق أخرى عنه:قال ابن جرير:حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن مرجانة ، سمعه يحدث أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية:( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ) الآية . فقال:والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه . قال ابن مرجانة:فقمت حتى أتيت ابن عباس ، فذكرت له ما قال ابن عمر ، وما فعل حين تلاها ، فقال عبد الله بن عباس:يغفر الله لأبي عبد الرحمن . لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر ، فأنزل الله بعدها:( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) إلى آخر السورة ، قال ابن عباس:فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها ، وصار الأمر إلى أن قضى الله ، عز وجل ، أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل .
طريق أخرى:قال ابن جرير:حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن سالم:أن أباه قرأ:( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) فدمعت عيناه ، فبلغ صنيعه ابن عباس ، فقال:يرحم الله أبا عبد الرحمن ، لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت ، فنسختها الآية التي بعدها:( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) .
فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس ، وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن عباس .
قال البخاري:حدثنا إسحاق ، حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن خالد الحذاء ، عن مروان الأصفر ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر ( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه ) قال:نسختها الآية التي بعدها .
وهكذا روي عن علي ، وابن مسعود ، وكعب الأحبار ، والشعبي ، والنخعي ، ومحمد بن كعب القرظي ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة:أنها منسوخة بالتي بعدها .
وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من طريق قتادة ، عن زرارة بن أوفى ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تكلم أو تعمل ".
وفي الصحيحين ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قال الله:إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشرا ". لفظ مسلم وهو في أفراده من طريق إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قال الله:إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة ، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه ، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة ".
وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه قال:هذا ما حدثنا أبو هريرة ، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قال الله:إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة ، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل ، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها ، وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ، ما لم يعملها ، فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قالت الملائكة:رب ، وإن عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال:ارقبوه ، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، وإنما تركها من جراي ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أحسن أحد إسلامه ، فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل ".
تفرد به مسلم عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق بهذا السياق واللفظ وبعضه في صحيح البخاري .
وقال مسلم أيضا:حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له [ عشرا] إلى سبعمائة ضعف ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب ، وإن عملها كتبت ". تفرد به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب .
[ وقال مسلم] حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا عبد الوارث ، عن الجعد أبي عثمان ، حدثنا أبو رجاء العطاردي ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال:"إن الله كتب الحسنات والسيئات ، ثم بين ذلك ، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة . وإن هم بسيئة فلم
يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة ".
ثم رواه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، عن جعفر بن سليمان ، عن الجعد أبي عثمان في هذا الإسناد بمعنى حديث عبد الوارث وزاد:"ومحاها الله ، ولا يهلك على الله إلا هالك ".
وفي حديث سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال:جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه:إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به . قال:"وقد وجدتموه ؟ "قالوا:نعم . قال:"ذاك صريح الإيمان ".
لفظ مسلم وهو عند مسلم أيضا من طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، به . وروى مسلم [ أيضا] من حديث مغيرة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة ، قال:"تلك صريح الإيمان ". وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) فإنها لم تنسخ ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول:إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم ، مما لم يطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم ، وهو قوله:( يحاسبكم به الله ) يقول:يخبركم ، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله:( فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) وهو قوله:( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) [ البقرة:225] أي:من الشك والنفاق . وقد روى العوفي والضحاك عنه قريبا من هذا .
وروى ابن جرير ، عن مجاهد والضحاك ، نحوه . وعن الحسن البصري أنه قال:هي محكمة لم تنسخ . واختار ابن جرير ذلك ، واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة ، وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر ، وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الذي رواه عند هذه الآية ، قائلا:حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد وهشام ، ( ح ) وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا هشام ، قالا جميعا في حديثهما:عن قتادة ، عن صفوان بن محرز ، قال:بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر ، وهو يطوف ، إذ عرض له رجل فقال:يا ابن عمر ، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ فقال:سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يدنو المؤمن من ربه ، عز وجل ، حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول:هل تعرف كذا ؟ فيقول:رب أعرف مرتين حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال:فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ". قال:"فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه ، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد:( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) [ هود:18] .
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة ، عن قتادة ، به .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أمية قالت:سألت عائشة عن هذه الآية:( وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) فقالت:ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال:"هذه مبايعة الله العبد ، وما يصيبه من الحمى ، والنكبة ، والبضاعة يضعها في يد كمه ، فيفتقدها فيفزع لها ، ثم يجدها في ضبنه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر [ من الكير] ".
وكذا رواه الترمذي ، وابن جرير من طريق حماد بن سلمة ، به . وقال الترمذي:غريب لا نعرفه إلا من حديثه .
قلت:وشيخه علي بن زيد بن جدعان ضعيف ، يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه:أم محمد أمية بنت عبد الله ، عن عائشة ، وليس لها عنها في الكتب سواه .