وقوله تعالى إخبارا عن موسى ، عليه السلام:( قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل ) ، يقول:إن موسى قال لصهره:الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين ، فإن أتممت عشرا فمن عندي ، فأنا متى فعلت أقلهما [ فقد] برئت من العهد ، وخرجت من الشرط ; ولهذا قال:( أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي ) أي:فلا حرج علي مع أن الكامل - وإن كان مباحا لكنه فاضل من جهة أخرى ، بدليل من خارج . كما قال [ الله] تعالى:( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ) [ البقرة:203] .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحمزة بن عمرو الأسلمي ، رضي الله عنه ، وكان كثير الصيام ، وسأله عن الصوم في السفر - فقال:"إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر "مع أن فعل الصيام راجح من دليل آخر .
هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه السلام ، إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما ; قال البخاري:
حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مروان بن شجاع ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال:سألني يهودي من أهل الحيرة:أي الأجلين قضى موسى ؟ فقلت:لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله . فقدمت فسألت ابن عباس ، رضي الله عنه ، فقال:قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل . هكذا رواه البخاري وهكذا رواه حكيم بن جبير وغيره ، عن سعيد بن جبير . ووقع في "حديث الفتون "، من رواية القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ; أن الذي سأله رجل من أهل النصرانية . والأول أشبه ، والله أعلم ، وقد روي من حديث ابن عباس مرفوعا ، قال ابن جرير:
حدثنا أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"سألت جبريل:أي الأجلين قضى موسى قال:أكملهما وأتمهما ".
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن الحميدي ، عن سفيان - وهو ابن عيينة - حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب - وكان من أسناني أو أصغر مني - فذكره .
قلت:وإبراهيم هذا ليس بمعروف .
ورواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي ، عن سفيان بن عيينة ، عن إبراهيم بن أعين ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره . ثم قال:لا نعرفه مرفوعا عن ابن عباس إلا من هذا الوجه .
وقال ابن أبي حاتم:قرئ على يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث ، عن يحيى بن ميمون الحضرمي ، عن يوسف بن تيرح:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل:أي الأجلين قضى موسى ؟ قال:"لا علم لي ". فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل ، فقال جبريل:لا علم لي ، فسأل جبريل ملكا فوقه فقال:لا علم لي . فسأل ذلك الملك ربه - عز وجل - عما سأله عنه جبريل عما سأله عنه محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال الرب سبحانه وتعالى:"قضى أبرهما وأبقاهما - أو قال:أزكاهما ".
وهذا مرسل ، وقد جاء مرسلا من وجه آخر ، وقال سنيد:حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قال:قال مجاهد:إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل جبريل:"أي الأجلين قضى موسى ؟ "فقال:سوف أسأل إسرافيل . فسأله فقال:سوف أسأل الرب عز وجل . فسأله فقال:"أبرهما وأوفاهما ".
طريق أخرى مرسلة أيضا:قال ابن جرير:حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي قال:سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:أي الأجلين قضى موسى ؟ قال:"أوفاهما وأتمهما ".
فهذه طرق متعاضدة ، ثم قد روي [ هذا] مرفوعا من رواية أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال الحافظ أبو بكر البزار ، حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، حدثنا عوبد بن أبي عمران الجوني ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر:أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل:أي الأجلين قضى موسى ؟ قال:"أوفاهما وأبرهما "، قال:"وإن سئلت أي المرأتين تزوج ؟ فقل الصغرى منهما ".
ثم قال البزار:لا نعلم يروى عن أبي ذر إلا بهذا الإسناد .
وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عوبد بن أبي عمران - وهو ضعيف - ثم قد روي أيضا نحوه من حديث عتبة بن الندر بزيادة غريبة جدا ، فقال أبو بكر البزار:حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا الحارث بن يزيد عن علي بن رباح اللخمي قال:سمعت عتبة بن الندر يقول:إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل:أي الأجلين قضى موسى ؟ قال:"أبرهما وأوفاهما ". ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إن موسى ، عليه السلام ، لما أراد فراق شعيب عليه السلام ، أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به . فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالب لون . قال:فما مرت شاة إلا ضرب موسى جنبها بعصاه ، فولدت قوالب ألوان كلها ، وولدت ثنتين وثلاثا كل شاة ليس فيها فشوش ولا ضبوب ، ولا كميشة تفوت الكف ، ولا ثعول ". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إذا افتتحتم الشام فإنكم ستجدون بقايا منها ، وهي السامرية ".
هكذا أورده البزار . وقد رواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا فقال:
حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة ( ح ) وحدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد الله بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد الحضرمي ، عن علي بن رباح اللخمي قال:سمعت عتبة بن الندر السلمي - صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"إن موسى ، عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه . فلما وفى الأجل - قيل:يا رسول الله ، أي الأجلين ؟ قال - أبرهما وأوفاهما . فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به ، فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام ، وكانت غنمه سوداء حسناء ، فانطلق موسى ، عليه السلام إلى عصاه فسماها من طرفها ، ثم وضعها في أدنى الحوض ، ثم أوردها فسقاها ، ووقف موسى بإزاء الحوض فلم تصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة قال:"فأتأمت وأثلثت ، ووضعت كلها قوالب ألوان ، إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش . قال يحيى:ولا ضبون . وقال صفوان:ولا ضبوب . قال أبو زرعة:الصواب ضبوب - ولا عزوز ولا ثعول ، ولا كميشة تفوت الكف "، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"فلو افتتحتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية ".
وحدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان قال:سمعت الوليد قال:فسألت ابن لهيعة:ما الفشوش ؟ قال:التي تفش بلبنها واسعة الشخب . قلت:فما الضبوب ؟ قال:الطويلة الضرع تجره . قلت:فما العزوز ؟ قال:ضيقة الشخب . قال فما الثعول ؟ قال:التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين . قلت:فما الكميشة ؟ قال:التي تفوت الكف ، كميشة الضرع ، صغير لا يدركه الكف .
مدار هذا الحديث على عبد الله بن لهيعة المصري - وفي حفظه سوء - وأخشى أن يكون رفعه خطأ ، والله أعلم . وينبغي أن يروى ليس فيها فشوش ولا عزوز ، ولا ضبوب ولا ثعول ولا كميشة ، لتذكر كل صفة ناقصة مع ما يقابلها من الصفات الناقصة . وقد روى ابن جرير من كلام أنس بن مالك - موقوفا عليه - ما يقارب بعضه بإسناد جيد ، فقال:حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال:لما دعا نبي الله موسى ، عليه السلام ، صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما ، قال له صاحبه:كل شاة ولدت على غير لونها فذلك ولدها لك ، فعمد فرفع حبالا على الماء ، فلما رأت الخيال فزعت فجالت جولة ، فولدن كلهن بلقا إلا شاة واحدة ، فذهب بأولادهن ذلك العام .