كما قال الله تعالى:( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ) ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن معه من المسلمين ، وهم نحو ثلاثة آلاف ، وقيل:سبعمائة ، وأسندوا ظهورهم إلى سلع ووجوههم إلى نحو العدو ، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم يحجب الرجالة والخيالة أن تصل إليهم ، وجعل النساء والذراري في آطام المدينة ، وكانت بنو قريظة - وهم طائفة من اليهود - لهم حصن شرقي المدينة ، ولهم عهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة ، وهم قريب من ثمانمائة مقاتل فذهب إليهم حيي بن أخطب النضري [ اليهودي] ، فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد ، ومالئوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعظم الخطب واشتد الأمر ، وضاق الحال ، كما قال الله تعالى:( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) .
ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريبا من شهر ، إلا أنهم لا يصلون إليهم ، ولم يقع بينهم قتال ، إلا أن عمرو بن عبد ود العامري - وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية - ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق ، وخلصوا إلى ناحية المسلمين ، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إليه ، فلم يبرز إليه أحد ، فأمر عليا فخرج إليه ، فتجاولا ساعة ، ثم قتله علي ، رضي الله عنه ، فكان علامة على النصر .
ثم أرسل الله عز وجل على الأحزاب ريحا شديدة الهبوب قوية ، حتى لم تبق لهم خيمة ولا شيء ولا توقد لهم نار ، ولا يقر لهم قرار حتى ارتحلوا خائبين خاسرين ، كما قال الله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا ) .
قال مجاهد:وهي الصبا ، ويؤيده الحديث الآخر:"نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ".
وقال ابن جرير:حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن عكرمة قال:قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب:انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال:إن الحرة لا تسري بالليل . قال:فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الأشج ، عن حفص بن غياث ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، فذكره .
وقال ابن جرير أيضا:حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب ، حدثني عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر قال:أرسلني خالي عثمان بن مظعون ليلة الخندق في برد شديد وريح إلى المدينة ، فقال:ائتنا بطعام ولحاف . قال:فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن لي ، وقال:"من أتيت من أصحابي فمرهم يرجعوا ". قال:فذهبت والريح تسفي كل شيء ، فجعلت لا ألقى أحدا إلا أمرته بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال:فما يلوي أحد منهم عنقه . قال:وكان معي ترس لي ، فكانت الريح تضربه علي ، وكان فيه حديد ، قال:فضربته الريح حتى وقع بعض ذلك الحديد على كفي ، فأنفدها إلى الأرض .
وقوله:( وجنودا لم تروها ) وهم الملائكة ، زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف ، فكان رئيس كل قبيلة يقول:يا بني فلان إلي . فيجتمعون إليه فيقول:النجاء ، النجاء . لما ألقى الله تعالى في قلوبهم من الرعب .
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال:قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان:يا أبا عبد الله ، رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه ؟ قال:نعم يا ابن أخي . قال:وكيف كنتم تصنعون ؟ قال:والله لقد كنا نجهد . قال الفتى:والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا . قال:قال حذيفة:يا ابن أخي ، والله لو رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ، ثم التفت فقال:"من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ؟ - يشرط له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرجع - أدخله الله الجنة ". قال:فما قام رجل . ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا ، فقال مثله ، فما قام منا رجل . ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال:"من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع - يشترط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة - أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة ". فما قام رجل من القوم; من شدة الخوف ، وشدة الجوع ، وشدة البرد . فلما لم يقم أحد ، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقال:"يا حذيفة ، اذهب فادخل في القوم فانظر ما يفعلون ، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا ". قال:فذهبت فدخلت [ في القوم] ، والريح وجنود الله ، عز وجل ، تفعل بهم ما تفعل ، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء ، فقام أبو سفيان فقال:يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه . قال حذيفة:فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي ، فقلت:من أنت ؟ فقال:أنا فلان بن فلان ، ثم قال أبو سفيان:يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح الذي ترون . والله ما تطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا ، فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله وهو معقول ، فجلس عليه ، ثم ضربه ، فوثب به على ثلاث ، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم . ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي:"ألا تحدث شيئا حتى تأتيني "ثم شئت ، لقتلته بسهم .
قال حذيفة:فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل ، فلما رآني أدخلني بين رجليه ، وطرح علي طرف المرط ، ثم ركع ، وسجد وإني لفيه ، فلما سلم أخبرته الخبر ، وسمعت غطفان بما فعلت قريش ، فانشمروا راجعين إلى بلادهم .
وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه قال:كنا عند حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه ، فقال له رجل:لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاتلت معه وأبليت . فقال له حذيفة:أنت كنت تفعل ذلك ؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا رجل يأتي بخبر القوم ، يكون معي يوم القيامة ؟ ". فلم يجبه منا أحد ، ثم الثانية ، ثم الثالثة مثله . ثم قال:"يا حذيفة ، قم فأتنا بخبر من القوم ". فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم ، فقال:"ائتني بخبر القوم ، ولا تذعرهم علي ". قال:فمضيت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم ، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار ، فوضعت سهما في كبد قوسي ، وأردت أن أرميه ، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تذعرهم علي "، ولو رميته لأصبته . قال:فرجعت كأنما أمشي في حمام ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها ، فلم أزل نائما حتى الصبح ، فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قم يا نومان .
ورواه يونس بن بكير ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم:أن رجلا قال لحذيفة ، رضي الله عنه:نشكو إلى الله صحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم; إنكم أدركتموه ولم ندركه ، ورأيتموه ولم نره . فقال حذيفة:ونحن نشكو إلى الله إيمانكم به ولم تروه ، والله لا تدري يا ابن أخي لو أدركته كيف كنت تكون . لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة . . . ثم ذكر نحو ما تقدم مطولا .
وروى بلال بن يحيى العبسي ، عن حذيفة نحو ذلك أيضا .
وقد أخرج الحاكم والبيهقي في "الدلائل "، من حديث عكرمة بن عمار ، عن محمد بن عبد الله الدؤلي ، عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال:ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال جلساؤه:أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا . فقال حذيفة:لا تمنوا ذلك . لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعود ، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا ، وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا في أصوات ريحها أمثال الصواعق ، وهي ظلمة ما يرى أحدنا إصبعه ، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقولون:"إن بيوتنا عورة وما هي بعورة ". فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، ويأذن لهم فيتسللون ، ونحن ثلاثمائة ونحو ذلك ، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا رجلا حتى أتى علي وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ، ما يجاوز ركبتي . قال:فأتاني صلى الله عليه وسلم وأنا جاث على ركبتي فقال:"من هذا ؟ "فقلت:حذيفة . قال:"حذيفة ". فتقاصرت بالأرض فقلت:بلى يا رسول الله ، كراهية أن أقوم . [ قال:قم] ، فقمت ، فقال:"إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم "- قال:وأنا من أشد [ الناس] فزعا ، وأشدهم قرا - قال:فخرجت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم ، احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته ". قال:فوالله ما خلق الله فزعا ولا قرا في جوفي إلا خرج من جوفي ، فما أجد فيه شيئا . قال:فلما وليت قال:"يا حذيفة ، لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني ". قال:فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد ، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ، ويمسح خاصرته ، ويقول:الرحيل الرحيل ، ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك ، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش ، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء النار ، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني "، [ فأمسكت] ورددت سهمي إلى كنانتي ، ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت العسكر ، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون:يا آل عامر ، الرحيل الرحيل ، لا مقام لكم . وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا ، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم ، وفرستهم الريح تضربهم بها ، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انتصفت في الطريق أو نحوا من ذلك ، إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين ، فقالوا:أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم . فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مشتمل في شملة يصلي ، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف ، فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم [ بيده] وهو يصلي ، فدنوت منه ، فأسبل علي شملته . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى ، فأخبرته خبر القوم ، وأخبرته أني تركتهم يترحلون ، وأنزل الله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا ) .
وأخرج أبو داود في سننه منه:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم:إذا حزبه أمر ، من حديث عكرمة بن عمار ، به .
وقوله:( إذ جاءوكم من فوقكم ) أي:الأحزاب ( ومن أسفل منكم ) تقدم عن حذيفة أنهم بنو قريظة ، ( وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ) أي:من شدة الخوف والفزع ، ( وتظنون بالله الظنون ) .
قال ابن جرير:ظن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين ، وأن الله سيفعل ذلك .
وقال محمد بن إسحاق في قوله:( وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ):ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق حتى قال معتب بن قشير - أخو بني عمرو بن عوف -:كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط .
وقال الحسن في قوله:( وتظنون بالله الظنون ):ظنون مختلفة ، ظن المنافقون أن محمدا وأصحابه يستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق ، وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري ، حدثنا أبو عامر ( ح ) وحدثنا أبي ، حدثنا أبو عامر العقدي ، حدثنا الزبير - يعني:ابن عبد الله ، مولى عثمان بن عفان - عن رتيج بن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن أبي سعيد قال:قلنا يوم الخندق:يا رسول الله ، هل من شيء نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر ؟ قال صلى الله عليه وسلم:"نعم ، قولوا:اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ". قال:فضرب وجوه أعدائه بالريح ، فهزمهم بالريح .
وكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل ، عن أبي عامر العقدي .