وقوله:( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ):هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ادعاء الأبناء الأجانب ، وهم الأدعياء ، فأمر [ الله] تعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة ، وأن هذا هو العدل والقسط .
قال البخاري ، رحمه الله:حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، حدثنا موسى بن عقبة قال:حدثني سالم عن عبد الله بن عمر ; أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد ، حتى نزل القرآن:( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) . وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي ، من طرق ، عن موسى بن عقبة به .
وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه ، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك; ولهذا قالت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة:يا رسول الله ، كنا ندعو سالما ابنا ، وإن الله قد أنزل ما أنزل ، وإنه كان يدخل علي ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا ، فقال صلى الله عليه وسلم:"أرضعيه تحرمي عليه "الحديث .
ولهذا لما نسخ هذا الحكم ، أباح تعالى زوجة الدعي ، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش زوجة زيد بن حارثة ، وقال:( لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) [ الأحزاب:37] ، وقال في آية التحريم:( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) [ النساء:23] ، احترازا عن زوجة الدعي ، فإنه ليس من الصلب ، فأما الابن من الرضاعة ، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا ، بقوله عليه السلام في الصحيحين:"حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب ". فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب ، فليس مما نهي عنه في هذه الآية ، بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي ، من حديث سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن الحسن العرني ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال:قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع ، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول:"أبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ". قال أبو عبيد وغيره:"أبيني "تصغير بني . وهذا ظاهر الدلالة ، فإن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر ، وقوله:( ادعوهم لآبائهم ) في شأن زيد بن حارثة ، وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان ، وأيضا ففي صحيح مسلم ، من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ، عن الجعد أبي عثمان البصري ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال:قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا بني ". ورواه أبو داود والترمذي .
وقوله:( فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ):أمر [ الله] تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم ، إن عرفوا ، فإن لم يعرفوا آباءهم ، فهم إخوانهم في الدين ومواليهم ، أي:عوضا عما فاتهم من النسب . ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء ، وتبعتهم ابنة حمزة تنادي:يا عم ، يا عم . فأخذها علي وقال لفاطمة:دونك ابنة عمك فاحتمليها . فاختصم فيها علي ، وزيد ، وجعفر في أيهم يكفلها ، فكل أدلى بحجة ; فقال علي:أنا أحق بها وهي ابنة عمي - وقال زيد:ابنة أخي . وقال جعفر بن أبي طالب:ابنة عمي ، وخالتها تحتي - يعني أسماء بنت عميس . فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها ، وقال:"الخالة بمنزلة الأم ". وقال لعلي:"أنت مني ، وأنا منك ". وقال لجعفر:"أشبهت خلقي وخلقي ". وقال لزيد:"أنت أخونا ومولانا ".
ففي هذا الحديث أحكام كثيرة من أحسنها:أنه ، عليه الصلاة والسلام حكم بالحق ، وأرضى كلا من المتنازعين ، وقال لزيد:"أنت أخونا ومولانا "، كما قال تعالى:( فإخوانكم في الدين ومواليكم ) .
وقال ابن جرير:حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن عيينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال:قال أبو بكرة:قال الله ، عز وجل:( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) ، فأنا ممن لا يعرف أبوه ، وأنا من إخوانكم في الدين . قال أبي:والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه .
وقد جاء في الحديث:"من ادعى لغير أبيه ، وهو يعلمه ، كفر . وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد ، في التبري من النسب المعلوم ; ولهذا قال:( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) .
ثم قال:( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ) أي:إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأ ، بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع; فإن الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه ، كما أرشد إليه في قوله آمرا عباده أن يقولوا:( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) [ البقرة:286] . وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قال الله:قد فعلت ". وفي صحيح البخاري ، عن عمرو بن العاص قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب ، فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ ، فله أجر ". وفي الحديث الآخر:"إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما يكرهون عليه ".
وقال هاهنا:( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ) أي:وإنما الإثم على من تعمد الباطل كما قال تعالى:( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) . وفي الحديث المتقدم:"من ادعى إلى غير أبيه ، وهو يعلمه ، إلا كفر ". وفي القرآن المنسوخ:"فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم ".
قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن عمر أنه قال:بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل معه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجمنا بعده . ثم قال:قد كنا نقرأ:"ولا ترغبوا عن آبائكم [ فإنه كفر بكم - أو:إن كفرا بكم - أن ترغبوا عن آبائكم] ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تطروني [ كما أطري] عيسى بن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا:عبده ورسوله ". وربما قال معمر:"كما أطرت النصارى ابن مريم ".
ورواه في الحديث الآخر:"ثلاث في الناس كفر:الطعن في النسب ، والنياحة على الميت ، والاستسقاء بالنجوم ".