ثمّ يضيف القرآن مؤكّداً وموضّحاً الخطّ الصحيح والمنطقي للإسلام: ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) .
إنّ التعبير ب ( أقسط ) لا يعني أنّهم إن دعوهم بأسماء المتبنّين لهم فإنّه عدل ،وإن دعوهم بأسماء آبائهم الواقعيين فإنّه أعدل ،بلوكما قلنا سابقاً مراراًإنّ صيغة ( أفعل التفضيل ) تستعمل في بعض الموارد ولا تدلّ على الوصف المقابل لصفة ما ،فمثلا نقول: من الأفضل أن يحتاط الإنسان ولا يلقي بنفسه في الخطر ،فلا يعني هذا أنّ إلقاء النفس في الخطر والتهلكة حسن ،إلاّ أنّ الاحتياط أفضل منه ،بل إنّ المراد المقارنة بين الحسن والقبح .
وتقول الآية لرفع الأعذار والحجج: ( فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) أي إنّ عدم معرفة آبائهم لا يكون دليلا على أن تضعوا اسم شخص آخر كأب لهذا الابن ،بل يمكنكم أن تخاطبوهم كإخوانكم في الدين أو أصدقائكم ومواليكم .
( الموالي ) جمع «مولى » ،وقد ذكر المفسّرون له معاني عديدة ،فالبعض فسّره هنا بمعنى الصديق والصاحب ،والبعض الآخر بمعنى الغلام المعتق والمحرّر ،لأنّ بعض الأدعياء كانوا عبيداً يُشترون ثمّ يتحرّرون ،ولمّا كان أصحابهم قد اهتّموا بهم وأحبّوهم فإنّهم كانوا يدعونهم كأبناء لهم .
وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ تعبير ( مولى ) في مثل هذه الموارد كان يرتبط بالعبيد المحرّرين من جهة أنّهم كانوا يحتفظون بعلاقاتهم مع مالكيهم بعد تحرّرهم ،تلك العلاقات التي كانت تنوب عن أولي الأرحام في بعض الجهات من الناحية الحقوقية ،وكانوا يعبّرون عن ذلك ب ( ولاء العتق ) ولذلك نقرأ في الروايات الإسلامية أنّ «زيد بن حارثة » بعد أن أعتقه النّبي كان يدعى زيد بن محمّد ،حتّى نزل القرآن بالأمر أعلاه ،فمن ذلك الحين قال له النّبي ( صلى الله عليه وآله ): «أنت زيد بن حارثة » ،وكان الناس يدعونه بعد ذلك: مولى رسول الله{[3335]} .
وقالوا أيضاً: كان لأبي حذيفة غلام يدعى «سالماً » فأعتقه وادّعاه ،فلمّا نزلت هذه الآية كانوا يسمّونه: سالماً مولى أبي حذيفة{[3336]} .
ولكن ربّما يدعو الشخص إنساناً لغير أبيه لاعتياده ذلك سابقاً ،أو لسبق لسانه ،أو لاشتباهه في تشخيص نسب الأفراد ،وهذا خارج عن حدود اختيار الإنسان ،فإنّ الله العادل الحكيم لا يعاقب مثل هذا الإنسان ،ولذا أردفت الآية: ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم{[3337]} وكان الله غفوراً رحيماً ) .
إنّه تعالى يغفر لكم ما سبق ،ويعفو عن السهو والنسيان والاشتباه ،أمّا بعد نزول هذا الحكم فإنّ الله عزّ وجلّ سوف لا يغفر لكم مخالفتكم إن صدرت عن عمد وقصد ،فتدعون أفراداً بغير أسماء آبائهم ،وتستمرّون على اتّباع هذا العرف السيئ بالدعوة لغير الأب .
وقال بعض المفسّرين: إنّ موضوع الخطأ يشمل الموارد التي يقول فيها الإنسان لآخر تحبّباً: ولدي ،أو يا بنيّ ،أو يقول فيها لآخر احتراما: يا أبت !
وهذا الكلام صحيحطبعاًوهذه التعبيرات لا تعدّ ذنباً ،لكن لا لأجل عنوان الخطأ ،بل لأنّ لهذه التعبيرات صفة الكناية والمجاز ،وقرينتها معها عادة ،والقرآن ينفي التعبيرات الحقيقية في هذا الباب ،لا المجازية .
ثمّ تتطرّق الآية التالية إلى مسألة مهمّة اُخرى ،أي إبطال نظام «المؤاخاة » بينهم .
وتوضيح ذلك: أنّ المسلمين لمّا هاجروا من مكّة إلى المدينة وقطع الإسلام كلّ روابطهم وعلاقاتهم بأقاربهم وأقوامهم المشركين الذين كانوا في مكّة تماماً ،فقد أجرى النّبي ( صلى الله عليه وآله ) بأمر الله عقد المؤاخاة بينهم وعقد عهد المؤاخاة بين «المهاجرين » و «الأنصار » ،وكان يرث أحدهم الآخر كالأخوين الحقيقيين ،إلاّ أنّ هذا الحكم كان مؤقّتاً وخاصّاً بحالة استثنائية جدّاً ،فلمّا اتّسع الإسلام وعادت العلاقات السابقة تدريجيّاً لم تكن هناك ضرورة لاستمرار هذا الحكم ،فنزلت الآية أعلاه وألغت نظام المؤاخاة الذي كان يحلّ محلّ النسب ،وجعل حكم الإرث وأمثاله مختّصاً بأُولي الأرحام الحقيقيين .