وبالرغم من أنّ نظام المؤاخاة كان نظاماً إسلامياًعلى خلاف نظام التبنّي الذي كان نظاماً جاهلياًولكن كان من الواجب أن يُلغى بعد ارتفاع الحالة الموجبة له ،وهكذا حصل ،غاية ما في الأمر أنّ الآية قبل أن تذكر هذا الحكم ذكرت حكمين آخرينأي كون النّبي ( صلى الله عليه وآله ) أولى بالمؤمنين من أنفسهم ،وكون نساء النّبي ( صلى الله عليه وآله ) كأمهاتهمكمقدّمة ،فقالت: ( النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه اُمّهاتهم ) .
ومع أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) بمنزلة الأب ،وأزواجه بمنزلة اُمّهات المؤمنين إلاّ أنّهم لا يرثون منهم مطلقاً ،فكيف يُنتظر أن يرث الابن المتبنّي ؟!
ثمّ تضيف الآية: ( واُولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين المهاجرين ) ولكن مع ذلك ،ومن أجل أن لا تغلق الأبواب بوجه المسلمين تماماً وليكون بإمكان المؤمنين تعيين شيئ من الإرث لإخوانهموإن كان بأن يوصوا بثلث المالفإنّ الآية تضيف في النهاية: ( إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ) .
وتقول في آخر جملة تأكيداً لكلّ الأحكام السابقة ،أو الحكم الأخير: ( كان ذلك في الكتاب مسطوراً )في اللوح المحفوظ أو في القرآن الكريم.
كان هذا خلاصة تفسير الآية أعلاه ،والآن يجب أن نتطرّق إلى تفصيل كلّ واحد من الأحكام الأربعة التي وردت في هذه الآية:
1ما هو المراد من كون النّبي أولى بالمؤمنين ؟
لقد ذكر القرآن في هذه الآية أولوية النّبي ( صلى الله عليه وآله ) بالمسلمين بصورة مطلقة ،ومعنى ذلك أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) أولى بالإنسان المسلم من نفسه في جميع الصلاحيات التي يمتلكها الإنسان في حقّ نفسه .
ومع أنّ بعض المفسّرين فسّروها بمسألة «تدبير الأمور الاجتماعية » ،أو «الأولوية في مسألة القضاء » ،أو «طاعة الأمر » ،إلاّ أنّنا في الواقع لا نمتلك أي دليل على انحصار الآية في أحد هذه الأمور الثلاث .
وإذا لاحظنا في بعض الروايات الإسلامية تفسير الأولوية ب «الحكومة » ،فهو في الحقيقة بيان لأحد فروع هذه الأولوية{[3338]} .
لذلك يجب أن يقال: إنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) أولى من كلّ إنسان مسلم في المسائل الاجتماعية والفردية ،وكذلك في المسائل المتعلّقة بالحكومة والقضاء والدعوة ،وإنّ إرادته ورأيه مقدّم على إرادة أي مسلم ورأيه .
ولا ينبغي العجب من هذه المسألة ،لأنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) معصوم ووكيل لله سبحانه ،ولا يفكّر ويقرّر إلاّ في صالح المجتمع والفرد ،ولا يتّبع الهوى أبداً ،ولا يعتبر مصالحه مقدّمة على مصالح الآخرين وأهمّ منها ،بل على العكس من ذلك ،فهو يؤثّر ويقدّم مصالح الأمة على مصالحه دائماً عند تعارض المصلحتين .
إنّ هذه الأولوية فرع من أولوية المشيئة الإلهيّة ،لأنّ كلّ ما لدينا من الله سبحانه .إضافة إلى أنّ الإنسان لا يصل إلى أوج الإيمان إلاّ عند ما يضحّي بأقوى العلائق والدوافع فيه ،وهو عشقه لذاته في طريق عشقه لذات الله وخلفائه ،ولذلك نقرأ في حديث: «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعاً لما جئت به »{[3339]} .
وجاء في حديث آخر: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين »{[3340]} .
وكذلك روي عنه ( صلى الله عليه وآله ): «ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة »{[3341]} .
ويقول القرآن الكريم في الآية ( 36 ) من سورة الأحزاب هذه: ( ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) .
ونؤكّد مرّة اُخرى على أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ الله قد جعل أمر الناس تبعاً لأهواء ورغبات شخص ما ،بل من جهة أنّ للنبي ( صلى الله عليه وآله ) مقام العصمة ،وبمصداق: ( لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ) فإنّ كلّ ما يقوله هو كلام الله ومن الله ،وهو أحرص وأرحم حتّى من الأب بهذه الأمة .
إنّ هذه الأولوية في الحقيقة تقع في مسير منافع الناس في جوانب الحكومة وتدبير المجتمع الإسلامي ،وكذلك في المسائل الشخصية والفردية .
ويتبيّن من هذه الأدلّة أنّ هذه الأولوية تضع على عاتق النّبي ( صلى الله عليه وآله ) مسؤوليات ثقيلة ضخمة ،ولذلك نقرأ في الرواية المشهورة الواردة في مصادر الشيعة والسنّة ،أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) قال: «أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه ،ومن ترك مالا فللوارث ،ومن ترك دَيناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ »{[3342]} .
ينبغي الإلتفات إلى أنّ «الضياع » هنا بمعنى الأولاد أو العيال الذين بقوا بدون معيل ،والتعبير ب «الدَّين » قبلها قرينة واضحة على هذا المعنى ،لأنّ المراد بقاء الدَّين بدون مال يسدّد به .
2الحكم الثّاني في هذا الباب يتعلّق بأزواج النّبي حيث يُعتبرن كاُمّهات لكلّ المؤمنين ،وهي طبعاً اُمومة معنوية وروحية ،كما أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) أب روحي ومعنوي للاُمّة .
إنّ تأثير هذا الارتباط المعنوي كان منحصراً في مسألة حفظ احترام أزواج النّبي وحرمة الزواج منهنّ ،كما جاء الحكم الصريح بتحريم الزواج منهنّ بعد وفاة النّبي ( صلى الله عليه وآله ) في آيات هذه السورة ،وإلاّ فليس لهذه العلاقة أدنى أثر من ناحية الإرث وسائر المحرّمات النسبية والسببية ،أي إنّ المسلمين كان من حقّهم أن يتزوّجوا بنات النّبي ،في حين أنّ أيّ أحد لا يستطيع الزواج من ابنة أمه .وكذلك مسألة كونهنّ أجنبيات ،وعدم جواز النظر إليهن إلاّ للمحارم .
في حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ): «إنّ امرأة قالت لعائشة: يااُمّه !فقالت: لست لك باُمّ إنّما أنا اُمّ رجالكم »{[3343]} وهو إشارة إلى أنّ الهدف من هذا التعبير هو حرمة التزويج ،وهذا صادق في رجال الأمة فقط .
وثمّة مسألة مطروحة ،وهي احترامهن وتعظيمهنّكما قلناإضافةً إلى قضيّة عدم الزواج ،ولذلك فإنّ نساء المسلمين كنّ قادرات على مخاطبة نساء النّبيبالأم بعنوان احترامهن .
والشاهد لهذا القول ،أنّ القرآن الكريم يقول: ( النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) وهذا يعني أولوية النّبي بكلّ النساء والرجال ،وضمير الجملة التالية يعود إلى هذا العنوان الواسع المعنى ،ولذلك نقرأ في العبارة التي نقلت عن «اُمّ سلمة »وهي من أزواج النّبي ( صلى الله عليه وآله )أنّها قالت: أنا اُمّ الرجال منكم والنساء{[3344]} .
وهنا يطرح سؤال ،وهو: هل أنّ تعبير ( وأزواجه اُمّهاتهم ) يتناقض مع ما ورد في الآية{[3345]} من سورة المجادلة: ( والذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ اُمّهاتهم إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً ) فكيف تعتبر نساء النّبيوالحال هذهاُمّهات المسلمين ولم يولدوا منهنّ ؟
وينبغي في الإجابة على هذا السؤال الإلتفات إلى أنّ مخاطبة امرأة ما بالأم إمّا أن تكون من الناحية الجسمية أو الروحية ..
فأمّا من الناحية الجسمية: فإنّ هذه المخاطبة تكون واقعية في حالة كون الإنسان مولوداً منها فقط ،وهذا هو الذي جاء في الآيات السابقة بأنّ الأم الجسمية للإنسان هي التي تلده فقط .
وأمّا الأب أو الأم الروحيين ،فهو الذي له حقّ معنويّ على الإنسان كالنّبي ( صلى الله عليه وآله )الذي يعتبر الأب الروحي للاُمّة ،ولأجله اكتسبت أزواجه منزلة واحترام الأم .
والإشكال الذي كان يوجّه إلى عرب الجاهلية في مورد «الظهار » أنّهم عندما كانوا يخاطبون أزواجهم بخطاب الأم فمن المسلّم أنّ مرادهم ليس الأم المعنوية ،بل المقصود أنّهنّ كالأم الجسمية ،ولذلك كانوا يعدّونه نوعاً من الطلاق ،ونعلم أنّ الأم الجسمية لا تتحقّق بمجرّد الألفاظ ،بل إنّ شرط ذلك الولادة الجسمية ،وبناءً على هذا فإنّ كلامهم كان منكراً وزوراً .
أمّا في مورد أزواج النّبي ( صلى الله عليه وآله ) ،فبالرغم من أنّهنّ لسن اُمّهات جسمياً ،إلاّ أنّهنّ اُمّهات روحيات اكتسابا من مقام واحترام النّبي ( صلى الله عليه وآله ) ولهنّ وجوب الاحترام كاُمّهات .وإذا رأينا القرآن قد حرّم الزواج من أزواج النّبي ( صلى الله عليه وآله ) في الآيات القادمة ،فإنّ ذلك شأن آخر من شؤون احترامهن واحترام النّبي ( صلى الله عليه وآله ) كما سيأتي توضيح ذلك بصورة مفصّلة إن شاء الله تعالى .
وهناك نوع ثالث من الأمهات في الإسلام وهي الأم المرضعة ،والتي اُشير إليها في الآية ( 23 ) من سورة النساء: ( واُمّهاتكم اللاتي أرضعنكم ) إلاّ أنّها في الحقيقة فرع من فروع الأم الجسمية .
3الحكم الثالث: مسألة أولوية اُولي الأرحام في الإرث بالنسبة إلى الآخرين ،لأنّ قانون الإرث في بداية الإسلامحيث قطع المسلمون علاقتهم بأقوامهم وأقاربهم على أثر الهجرةنظّم على أساس الهجرة والمؤاخاة ،أي أنّ المهاجرين كانوا يرثون بعضهم من بعض أو مع الأنصار الذين تآخوا معهم ولكن لم تكن هناك ضرورة للاستمرار عليه بعد توسّع الإسلام وإعادة كثير من العلاقات القومية والرحمية السابقة نتيجة إسلام أقوامهم( وينبغي الالتفات إلى أنّ سورة الأحزاب قد نزلت في السنة الخامسة للهجرة ،وهي سنة «حرب الأحزاب » ) لذلك ثبّتت أولوية اُولي الأرحام بالنسبة إلى الآخرين .
وهناك قرائن على أنّ المراد من الأولوية هنا هي الأولوية الإلزامية لا الإستحبابية ،لأنّ إجماع علماء الإسلام على هذا المعنى ،إضافة إلى الروايات الكثيرة الواردة في المصادر الإسلامية ،والتي تثبت هذا الموضوع .
ويجب هنا الالتفات إلى هذه المسألة بدقّة ،وهي: أنّ هذه الآية بصدد بيان أولوية اُولي الأرحام في مقابل الأجانب ،لا بيان أولوية طبقات الإرث الثلاث بالنسبة إلى بعضها البعض ،وبتعبير آخر ،فإنّ المفضّل عليهم هنا هم المؤمنون والمهاجرون الذين ورد ذكرهم في متن القرآن: ( من المؤمنين والمهاجرين ) .
بناءً على هذا فإنّ مفهوم الآية يصبح: إنّ اُولي الأرحام أولى من الأجانب من ناحية الإرث ،أمّا كيف يرث هؤلاء الأرحام ؟وعلى أي أساس ومعيار ؟فإنّ القرآن سكت عن ذلك في هذا الموضع ،مع أنّه بحث الموضوع مفصّلا في آيات سورة النساء{[3346]} .
4الحكم الرّابع الذي ورد في الآية أعلاه كاستثناء ،هو استفادة وانتفاع الأصدقاء والأفراد المعينين الذين يخصّهم الأمر من الأموال التي يتركها الإنسان كذكرى ،والذي بُيّن بجملة: ( إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ) ومصداقه الواضح هو حكم الوصيّة ،حيث يستطيع الإنسان أن يتصرّف في ثلث أمواله ويضعه حيث يشاء ،أو يوصي به لمن يشاء .
وبهذا فإنّ الإسلام عندما وضع أساس الإرث على دعامة القرابة والرحم بدل الروابط والعلاقات السابقة ،لم يقطع وشائج الصلة بين الإنسان ورفقائه الذين يعزّهم وباقي إخوته المسلمين تماماً ،فالإنسان حرّ في التصرّف في ماله من ناحية الكميّة والكيفية ،إلاّ أنّ هذه الحرية مشروطة بأن لا تزيد على الثلث ،ومن الطبيعي أنّ الإنسان إذا لم يوص بشيء فإنّ كلّ أمواله تقسّم بين أقاربه وذوي رحمه طبقاً لقانون الإرث ،ولا يترك له ثلث في هذه الحالة{[3347]} .
ملاحظة
وردت روايات كثيرة عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) في تفسير الآية أعلاه فيما يتعلّق باُولي الأرحام ،حيث فسّرت هذه الآية في بعض منها بمسألة «إرث الأموال » ،كما هو المعروف بين المفسّرين ،في حين فسّرت في البعض الآخر بمسألة «إرث الخلافة والحكومة » في آل النّبي ( صلى الله عليه وآله ) وأئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
ومن جملتها ما نقرؤه في حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) حينما سئل عن تفسير هذه الآية ،أنّه قال: «نزلت في ولد الحسين ( عليه السلام ) » ..قيل: في المواريث ؟قال: «لا ،نزلت في الإمرة »{[3348]} .
من البديهي أنّه ليس المراد من هذه الأحاديث نفي مسألة إرث الأموال ،بل المراد لفت الانتباه إلى أنّ للإرث معنىً واسعاً يشمل إرث الأموال وإرث الولاية والخلافة .
وليس لهذا التوارث أي وجه شبه مع مسألة توارث السلطنة في سلسلة الملوك والسلاطين ،فإنّ التوارث هنا نتيجة للأهلية واللياقة ،ولذلك فإنّه يشمل من بين أولاد الأئمّة من كانت له هذه الأهلية ،ويشبه تماماً ما يريده إبراهيم ( عليه السلام ) من الله سبحانه لذريّته ،فيقول الله له: إنّ الإمامة والولاية لا تنال الظالمين ،بل هي خاصّة بالطاهرين ( لا ينال عهدي الظالمين ) .
ويشبه أيضاً ما نقوله في الزيارات أمام قبور الشهداء في سبيل الله ،ومن جملتها ما نقوله أمام قبر الإمام الحسين ( عليه السلام ): السلام عليك يا وارث آدم ،ووارث نوح ،ووارث إبراهيم ،ووارث موسى وعيسى ومحمّد ..فإنّ هذا الإرث في الجوانب العقائدية والأخلاقية والمعنوية والروحية .