قوله تعالى:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}
يبين الله م كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من بالغ الشفقة والرحمة بأمته وما كان عليه من شديد الحرص عليهم والنصح لهم .لا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد العالمين حدبا ورأفة واهتماما بالمسلمين ،بل بالبشرية كافة .وهو عليه الصلاة والسلام حريص على هداية الناس وإيمانهم ؛لكي يستقيموا وتصلح حالهم ،فتكتب لهم النجاة والسلامة والصلاح في الدنيا والآخرة ؛فهو بذلك أولى بالمؤمنين من أنفسهم فضلا عن كونه أولى بهم من غيرهم ،فوجب على المسلمين بذلك أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ؛وأن يقدموه فيما دعاهم إليه ،ويؤخروا ما دعتهم إليه أنفسهم ،وأن يحبوه أعظم الحب أكثر من حبهم أنفسهم .وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين "وكذلك جاء في الصحيح أن عمر ( رضي الله عنه ) قال: يا رسول الله والله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي فقال صلى الله عليه وسلم:"لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك "فقال: يا رسول الله لأنت أحبُّ إلي من كل شيء حتى من نفسي .فقال صلى الله عليه وسلم:"الآن يا عمر ".
وروى البخاري عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة .اقرؤوا إن شئتم{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا .وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه ".
وأخرج الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:"أنا أولى مؤمن من نفسه ،فأيما رجل مات وترك دينا فإليّ ،ومن ترك مالا فهو لورثته ".
قوله:{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} ذلك تشريف من الله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛إذ جعلهن أمهات المؤمنين .وذلك في وجوب التوقير والاحترام والإعظام وحرمة النكاح على الرجال .لكن لا تجوز الخلوة بهن ،ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ،بل إن هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة النبي .
قوله:{وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} المراد بكتاب الله ،القرآن أو هو حكم الله .والمعنى: أن أولي القرابات أولى بالتوارث في حكم الله ،من المهاجرين والأنصار وهذا نسخ للتوارث بالهجرة ؛فقد كانوا من قبل يتوارثون بالحِلف ،والمؤاخاة في الدين ،التي كانت بينهم .قال ابن عباس في ذلك: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه ؛للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم .وكذا قال آخرون من السلف والخلف .فقد روي عن الزبير بن العوام ( رضي الله عنه ) قال: أنزل الله عز وجل فينا خاصة معشر قريش والأنصار{وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا ولا أموال لنا ،فوجدنا الأنصار نِعْمَ الإخوانُ ،فواخيناهم ووارثناهم .فآخى أبو بكر ( رضي الله عنه ) خارجة بنت زيد ،وآخى عمر ( رضي الله عنه ) فلانا ،وآخى عثمان ( رضي الله عنه ) رجلا من بني زريق ،حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة فرجعنا إلى مواريثنا .
قوله:{إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} يعني ،إلا أن توصوا لذوي قراباتكم من غير أهل الإيمان والهجرة .فقد ذهب الميراث ،وبقي البر والإحسان والصلة والوصية .وقيل: نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني .أي يُفعل هذا مع الولي القريب وإن كان كافرا .فالمشرك وليّ في النسب لا في الدين فيوصى له بوصية .
قوله:{كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} المراد بالكتاب اللوح المحفوظ .وقيل: القرآن .و{مَسْطُورًا} يعني مكتوب .سطرت الكتاب سطرا أي كتبته .ويجمع السطر على أسطر وسطور{[3695]} .
والمعنى: أن هذا الحكم وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض مكتوب ومُثبت من الله في كتابه الأزلي الذي فيه علم الأولين والآخرين ،فهو لا يأتي عليه التغيير أو التبديل{[3696]}
وتخصيص أولي الأرحام والقرابات بالميراث ،مراعاة حقيقة وكبرى لفطرة الإنسان الذي جُبل على حب ذويه أولي القربى والميل إليهم بشدة واحترار .والإنسان قد جُعلت في أعماقه مودة مطبوعة ؛لأقربائه من البنين والبنات والآباء والأمهات والأجداد والجدات والأعمام والعمات والأخوال والخالات .أولئك يميل الطبع البشري إليهم ؛ليفيض عليهم بالرأفة والرقة والحدْب والتحتان .فلا جرم أن هذه مزية أصلية ومفطورة من مزايا الإسلام العظيم ،وهي خِصِّيصة من خصائص الإسلام تشهد له بالصلوح للبشرية في كل زمان .