{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ( 6 )} [ 6]
في هذه الآية:
1-تقرير بحق النبي على المؤمنين فهو أولى بهم من أنفسهم .
2- وتقرير بحق أزواجه على المؤمنين فهن أمهاتهم أيضا .
3-وتقرير الأولوية لذوي الأرحام من المؤمنين فيما بينهم .
4- وتنبيه على أن تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام من المؤمنين لا يحول دون مساعدة المؤمنين لأوليائهم ،من غير ذوي الأرحام وإسداء المعروف إليهم .
وهذا هو حكم الله الذي كتب عليهم .
تعليق على الآية
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} الخ
ولقد روى المفسرون أن الفقرة الأولى نزلت في جماعة ندبهم النبي إلى الجهاد فقالوا: نذهب فنستأذن آباءنا وأمهاتنا{[1644]} .وأن الفقرة الثانية نزلت في صدد تحريم نكاح زوجات النبي على المؤمنين{[1645]} .وأن الفقرة الثالثة في صدد نسخ ما كان يجري من التوارث بين المهاجرين والأنصار الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حين قدومه إلى المدينة ،أو لما كان يجري من التوارث بطريق الولاء والتبني والمؤاخاة وحصره بين ذوي الأرحام{[1646]} .
ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح ويبدو غريبا أن تشتمل آية واحدة على فقرات ،كل منها في صدد موضوع لا صلة له بالآخر .
والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بالآيات السابقة ،وأنها جاءت معقبة عليها من جهة ومشرعة من جهة ،ومستدركة من جهة ،ومقررة لموضوع التوارث في نصابه الحق من جهة .
فقد ألغي التبني وما يترتب عليه من أحكام وكان للنبي ابن بالتبني فقررت الفقرة الأولى من الآية أن النبي هو بمثابة أب لجميع المسلمين ،وأنه أولى بهم من أنفسهم وأن زوجاته أمهاتهم فلا محل ليكون له ابن خاص بالتبني .وكان التبني يكسب حقا في الإرث فقررت الفقرة الثانية أن حق التوارث إنما هو بين ذوي الأرحام وأمرت الآية [ 5] اعتبار الأبناء بالتبني الذين أبطل تبنيهم ،ولم يعرف آباؤهم الحقيقيون إخوانا وموالي وأولياء لمتبنيهم بسبب اندماجهم السابق فيهم فقررت الفقرة الثالثة أن إبطال حق التوارث في التبني ليس من شأنه أن يمنع المتبنين السابقين من مساعدة متبنيهم الذين غدوا موالي أو أولياء لهم .وبهذا يستقيم السياق والمعنى والمدى كما هو المتبادر .
ولقد رويت زيادة في الفقرة الأولى من الآية وهي جملة"وهو أبوهم "بعد كلمة ( أنفسهم ) وذكر في الرواية أن ذلك كان في مصحف أبي بن كعب أحد علماء القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم{[1647]} وقد تكون الجملة تفسيرية ،وفيها على كل حال تدعيم لما شرحناه آنفا سواء أكانت تفسيرية أم أصلية كما جاء في الرواية .مع ترجيحنا أنها تفسيرية ،وليست أصيلة إذا صحت الرواية .فالكلمة لم ترد في مصحف عثمان ،ومصحف عثمان نقل عن مصحف أبي بكر ومصحف أبي بكر كتب بعد شهور من وفاة النبي ليكون إماما على ملأ الناس .وروجع على ما كان في أيدي المسلمين من مصاحف ومدونات .
وجملة{إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا} تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين بوجوب البر وإسداء المعروف على اختلاف أنواعه لمن ينتمي إليهم من تابعين ومماليك وحاشية وحلفاء .
ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق هذه الآية حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة .اقرأوا إذا شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم .فأي مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ،فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه "{[1648]} .وفي الحديث توضيح نبوي متصل بمدى الآية كما هو المتبادر .
تعليق على الآية
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}
وتعبير{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} يحتوي قيدا احترازيا على ما يتبادر لإخراج غير المؤمنين من ذوي الأرحام من الأولوية وحقوق الإرث وحصر ذلك بين المؤمنين .ولعل اختصاص المهاجرين بالذكر هو بسبب أن بعض ذوي أرحامهم كانوا ما يزاولون كفارا .وعدم التوارث بين المسلم وغير المسلم من القواعد الشرعية الجارية النبوية .وقد تكون هذه الآية من مستندات ذلك .وقد روى البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود حديثا عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه:"لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم "{[1649]} .
ولقد جاء في آخر سورة الأنفال آية احتوت تقرير الأولوية بين ذوي الأرحام بدون هذا القيد .فلعل الأمر ظل ملتبسا على المسلمين فاقتضت الحكمة توضيحه بهذه المناسبة في القرآن والحديث .أما القول بأن هذه الفقرة تحتوي نسخا لآية سورة الأنفال [ 72] والتي روي أنها اعتبرت مقررة للتوارث بين المتآخين من مسلمي الأنصار ومهاجريهم فإننا لم نر في تلك الآية ولا في هذه الفقرة ما يلهمه أصلا أو نسخا على ما مر شرحه أيضا في سياق سورة الأنفال .
تعليق على مدى ذكر أمومة أزواج النبي للمؤمنين في الآية
{النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} وننبه على أن النص على أمومة أزواج النبي للمسلمين في هذه الآية لم يكن من شأنه أن يبيح لرجال المسلمين ما أبيح لأبناء زوجات النبي الحقيقيين بالنسبة لأمهاتهم على ما يستفاد من الآيات [ 5355] من هذه السورة ؛حيث منعت هذه الآيات رجال مسلمين من الدخول على زوجات النبي وطلب ما يريدون منهن من وراء حجاب واستثنت من ذلك آباءهن وأبناءهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن .وحرمت نصا التزوج بهن من بعد رسول الله ؛حيث يفيد هذا أن النص على أن أمومتهن للمؤمنين في الآية لم يكن بسبيل تحريم زواجهن على المؤمنين كما روى المفسرون وأشرنا إليه قبل .وإنما هو تعبير أسلوبي بسبيل تقرير المعنى الذي عنّ لنا والذي نرجو أن يكون هو الصواب وهو: كون النبي وأزواجه بمثابة والد المؤمنين وأمهاتهم فلا يكون من محل ليكون للنبي ابن خاص منهم بالتبني .والتعبير بعد يتضمن معنى تكريميا لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم يوجب التنبه إليه .
الخلاصة
وبناء على ما تقدم وتعقيبا عليه يمكن أن يقال والله أعلم: إن جملة{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} قد تضمنت تقريرا أو تنويها بما في قلب رسول الله عليه وسلم وفي قلوب زوجاته رضي الله عنهن من حب وعطف وحرص على المؤمنين واهتمام لأمورهم أشد من اهتمامهم لأنفسهم حتى صار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أولى بهم من أنفسهم وبمثابة أبيهم وصارت زوجات رسول الله رضي الله عنهن بمثابة أمهاتهم دون أن يتجاوز ذلك ما يكون بين ذوي الأرحام من حقوق مادية ووراثية ؛حيث يبقى ذوو الأرحام بعضهم أولى ببعض وحديث الشيخين فيه تفسير وزيادة عظيمة الشأن ،وهو أن المال للورثة وأن من مات من المؤمنين وعليه دين فالنبي صلى الله عليه وسلم يسد دينه .وأن من مات وترك أيتاما بلا مال فالنبي صلى الله عليه وسلم يرعى أيتامه أيضا ،وهكذا تبدو الولاية والأبوية النبوية السامية في أورع مثاليتها وعظمتها ،صلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما .