التّفسير
إدّعاءات جوفاء:
تعقيباً للآيات السابقة التي كانت تأمر النّبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يتّبع الوحي الإلهي فقط ،ولا يتّبع الكافرين والمنافقين ،تعكس هذه الآيات التي نحن بصددها عاقبة اتّباع هؤلاء وأنّه يدعو الإنسان إلى مجموعة من الخرافات والأباطيل ،وقد ذكرت الآية الأولى من الآيات مورد البحث ثلاث منها ،فتقول أوّلا: ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) .
وقد ذكر جمع من المفسّرين في سبب نزول هذا القسم من الآية: أنّ رجلا في الجاهلية يدعى «جميل بن معمّر » كان عجيب الحفظ ،وكان يدّعي أنّ في جوفه قلبين كلّ منهما أفهم من محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ،ولذلك كان مشركو قريش يسمّونه: ذا القلبين !
فلمّا كان يوم بدر وهزم المشركون ،وفيهم جميل بن معمّر ،تلقّاه أبو سفيان وهو آخذ بيده إحدى نعليه ،والأخرى في رجله ،فقال له: يا أبا معمّر ،ما حال الناس ؟قال: انهزموا ،قال: فما بالك إحدى نعليك في يدك ،والاُخرى في رجلك ؟فقال أبو معمّر: ما شعرت بذلك ،وكنت أظنّهما في رجلي ،فعرفوا يومئذ أنّه لم يكن له إلاّ قلب واحد لما نسي نعله في يده{[3331]} .بل لم يكن يعقل ويفهم حتّى بمقدار ذي القلب الواحد .
والمراد من «القلب » في مثل هذه الموارد «العقل » .
وعلى كلّ حال فإنّ اتّباع الكفّار والمنافقين ،وعدم اتّباع الوحي الإلهي يدعو الإنسان إلى مثل هذه الاعتقادات الخرافية .
وبغضّ النظر عن ذلك ،فإنّ للجملة معنى أعمق ،وهو: أنّه ليس للإنسان إلاّ قلب واحد ،ولا يحتوي هذا القلب ولا يختزن إلاّ عشق معبود واحد ،وعلى هذا فإنّ اُولئك الذين يدعون إلى الشرك والآلهة المتعدّدة ينبغي أن تكون لهم قلوب متعدّدة ،ليجعلوا كلّ واحد منها بيتاً لعشق معبود واحد !
من المسلّم أنّ شخصيّة الإنسان السليم شخصية واحدة ،وخطّه الفكري واحد ،ويجب أن يكون واحداً في وحدته واختلاطه بالمجتمع ،في الظاهر والباطن ،في الداخل والخارج ،وفي الفكر والعمل ،فإنّ كلّ نوع من أنواع النفاق أو ازدواج الشخصية أمر مفروض على الإنسان وعلى خلاف طبيعته .
إنّ الإنسان بحكم امتلاكه قلباً واحداً يجب أن يكون له كيان عاطفي واحد ،وأن يخضع لقانون واحد ..
ولا يدخل قلبه إلاّ حبّ معشوق واحد ..
ويسلك طريقاً معيّناً في حياته ،بأن يتآلف مع فريق واحد ،ومجتمع واحد ،وإلاّ فإنّ التعدّد والتشتّت والطرق المختلفة والأهداف المتفرّقة ستقوده إلى اللاهدفية والانحراف عن المسير التوحيدي الفطري .
ولهذا نرى في حديث عن أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) في تفسير هذه الآية: «لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان ،إنّ الله لم يجعل لرجل قلبين في جوفه ،فيحبّ بهذا ويبغض بهذا ،فأمّا محبّنا فيخلص الحبّ لنا كما يخلص الذهب بالنار لا كدر فيه ،فمن أراد أن يعلم فليمتحن قلبه ،فإن شارك في حبّنا حبّ عدوّنا فليس منّا ولسنا منه{[3332]} .
وبناءً على هذا فإنّ القلب مركز الاعتقاد الواحد ،وينفّذ برنامجاً عملياً واحداً ،لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يعتقد بشيء حقيقة وينفصل عنه في العمل ،وما يدّعي بعض المعاصرين من أنّهم يمتلكون شخصيات متعدّدة ،ويقولون: إنّنا قد قمنا بالعمل الفلاني سياسياً ،وبذلك العمل دينياً ،والآخر اجتماعيا ،ويوجّهون بذلك أفعالهم المتناقضة ،فهو ناشئ من نفاقهم وسوء سريرتهم حيث يريدون أن يسحقوا بهذا الكلام قانون الخلقة .
صحيح أنّ أبعاد حياة الإنسان مختلفة ،ولكن يجب أن يحكمها خطّ واحد ،وتسير ضمن منهاج واحد .
ثمّ يتطرّق القرآن إلى خرافة اُخرى من خرافات الجاهلية ،وهي خرافة «الظهار » ،حيث أنّ المشركين كانوا إذا غضبوا على نسائهم ،وأرادوا أن يبدوا تنفّرهم وعدم ارتياحهم ،قالوا للزوجة: أنت عليّ كظهر أمي فيعتبرها بمثابة أمه ،وكان يعدّ هذا الكلام بمنزلة الطلاق !
يقول القرآن الكريم في تتمّة هذه الآية: ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهنّ أمهاتكم ) فلم يمض الإسلام هذا القانون الجاهلي ،ولم يصادق عليه ،بل جعل عقوبة لمن يتعاطاه ،وهي: أنّ من نطق بهذا الكلام فلا يحقّ له أن يقرب زوجته حتّى يدفع الكفّارة ،وإذا لم يدفعها ولم يأت زوجته فإنّ لها الحقّ في أن تستعين بحاكم الشرع ليجبره على أحد أمرين: إمّا أن يطلّقها وفقاً لأحكام الإسلام ويفارقها ،أو أن يكفّر ويستمرّ في حياته الزوجية كالسابق{[3333]} .
أي منطق هذا الذي تصبح فيه زوجة الإنسان بمنزلة اُمّه بمجرّد أن يقول لها: أنت عليّ كظهر اُمّي ؟!إنّ ارتباط وعلاقة الأم والولد علاقة طبيعية لا تتحقّق بمجرّد الكلام مطلقاً ،ولذلك تقول الآية 2سورة المجادلة بصراحة: ( إنّ اُمّهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنّهم ليقولون منكراً من القول وزوراً ) .
وإذا كان هدف هؤلاء من إطلاق هذه الكلمات هو الافتراق والانفصال عن المرأة( وهكذا كان في عصر الجاهلية ،حيث كانوا يقولون هذه الكلمات بدل لفظ الطلاق )فإنّ الانفصال عن المرأة لا يحتاج إلى مثل هذا الكلام القبيح السيئ .ألا يمكن أن يصرّح بالطلاق بتعبير صحيح بعيد عن كلّ ذلك القبح ؟
وقال بعض المفسّرين: إنّ «الظهار » في الجاهلية لم يكن يؤدّي إلى انفصال الرجل عن المرأة ،بل إنّه كان يجعل المرأة كالمعلّقة لا يعرف حالها ومصيرها ،وإذا كانت المسألة كذلك ،فإنّ جناية هذا العمل وقبحه ستكون أوضح ،لأنّ كلمة لا معنى لها كانت تحرّم على الرجل علاقته الزوجية مع زوجته من دون أن تكون المرأة مطلّقة{[3334]} .
ثمّ تطرّقت الآية إلى ثالث خرافة جاهلية ،فقالت: ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ) .
وتوضيح ذلك: أنّه كان من المتعارف في زمن الجاهلية أنّهم كانوا ينتخبون بعض الأطفال كأولاد لهم ،ويسمّونهم أولادهم ،وبعد هذه التسمية يعطونه كلّ الحقوق التي يستحقّها الولد من الأب ،فيرث الولد من تبنّاه ،كما يرث المتبنّي الولد ،ويجري عليهما تحريم امرأة الأب أو زوجة الابن .
وقد نفى الإسلام هذه العادات غير المنطقية والخرافية أشدّ النفي ،بلوكما سنرىأنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) أقدملمحو هذه السنّة المغلوطةعلى الزواج من زوجة ولده المتبنّى «زيد بن حارثة » بعد أن طلّقها زيد ،ليتّضح من خلال هذه السنّة النبوية أنّ هذه الألفاظ الجوفاء لا يمكن أن تغيّر الحقائق والواقع ،لأنّ علاقة البنوّة والاُبوّة علاقة طبيعية لا تحصل أبداً من خلال الألفاظ والاتفاقيات والشعارات .
ومع أنّنا سنقول فيما بعد: أنّ زواج النّبي بزوجة زيد المطلّقة قد أثار ضجّة عظيمة بين أعداء الإسلام ،وأصبح حربة بيدهم للإعلام المضادّ السيئ ،إلاّ أنّ هذا العمل كان يستحقّ تحمّل كلّ ذلك الصخب الإعلامي لتحطيم هذه السنّة الجاهلية ،ولذلك يقول القرآن الكريم بعد هذه الجملة: ( ذلكم قولكم بأفواهكم ) .
إنّكم تقولون: إنّ فلاناً ولدي ،وأنتم تعلمون علم اليقين أنّ الأمر ليس كذلك ،فإنّ الأمواج الصوتية فقط هي التي تخرج من أفواهكم ولا تنبع مطلقاً من اعتقاد قلبي ،وهذا كلام باطل ليس إلاّ ( والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل ) .
إنّ «قول الحقّ » يطلق على القول الذي ينطبق على الواقع الموضوعي تماماً ،أو أن يكون من الاُمور الاعتبارية التي تنسجم مع مصالح كلّ أطراف القضيّة ،ونعلم أنّ مسألة «الظهار » في الجاهلية ،أو «التبنّي » الذي كان يسحق حقوق الأبناء الآخرين إلى حدّ كبيرلم يكونا من الموضوعات العينية ،ولا من الإعتباريات الحافظة لمصلحة عامّة الناس .