يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا حسيا معروفا ، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله:أنت علي كظهر أمي - أما له ، كذلك لا يصير الدعي ولدا للرجل إذا تبناه فدعاه ابنا له ، فقال:( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) ، كقوله:( ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ) . [ المجادلة:3] .
وقوله:( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ):هذا هو المقصود بالنفي; فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له:"زيد بن محمد "فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله:( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ) كما قال في أثناء السورة:( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ) [ الأحزاب:40] وقال هاهنا:( ذلكم قولكم بأفواهكم ) يعني:تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا ، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر ، فما يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان .
( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ):قال سعيد بن جبير ( يقول الحق ) أي:العدل . وقال قتادة:( وهو يهدي السبيل ) أي:الصراط المستقيم .
وقد ذكر غير واحد:أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش ، كان يقال له:"ذو القلبين "، وأنه كان يزعم أن له قلبين ، كل منهما بعقل وافر . فأنزل الله هذه الآية ردا عليه . هكذا روى العوفي عن ابن عباس . قاله مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، واختاره ابن جرير .
وقال الإمام أحمد:حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، عن قابوس - يعني ابن أبي ظبيان - أن أباه حدثه قال:قلت لابن عباس:أرأيت قول الله تعالى:( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) ، ما عنى بذلك ؟ قال:قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي ، فخطر خطرة ، فقال المنافقون الذين يصلون معه:ألا ترون له قلبين ، قلبا معكم وقلبا معهم ؟ فأنزل الله ، عز وجل:( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) .
وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن صاعد الحراني - وعن عبد بن حميد ، عن أحمد بن يونس - كلاهما عن زهير ، وهو ابن معاوية ، به . ثم قال:وهذا حديث حسن . وكذا رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث زهير ، به .
وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله:( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) قال:بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ، ضرب له مثل ، يقول:ليس ابن رجل آخر ابنك .
وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد:أنها نزلت في زيد بن حارثة . وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير ، والله أعلم .