وقوله:( والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ) أي:ابتدأ خلق أبيكم آدم من تراب ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، ( ثم جعلكم أزواجا ) أي:ذكرا وأنثى ، لطفا منه ورحمة أن جعل لكم أزواجا من جنسكم ، لتسكنوا إليها .
وقوله:( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ) أي:هو عالم بذلك ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، بل ( ما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) [ الأنعام:59] . وقد تقدم الكلام على قوله تعالى:( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام [ وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير] المتعال ) [ الرعد:8 ، 9] .
وقوله:( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ) أي:ما يعطى بعض النطف من العمر الطويل يعلمه ، وهو عنده في الكتاب الأول ، ( ولا ينقص من عمره ) الضمير عائد على الجنس ، لا على العين; لأن العين الطويل للعمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره ، وإنما عاد الضمير على الجنس .
قال ابن جرير:وهذا كقولهم:"عندي ثوب ونصفه "أي:ونصف آخر .
وروي من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله:( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ) ، يقول:ليس أحد قضيت له طول عمر وحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت ذلك له ، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه ، وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ للعمر ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له ، فذلك قوله:( ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ) ، يقول:كل ذلك في كتاب عنده .
وهكذا قال الضحاك بن مزاحم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه:( ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ) قال:ما لفظت الأرحام من الأولاد من غير تمام .
وقال عبد الرحمن في تفسيرها:ألا ترى الناس ، يعيش الإنسان مائة سنة ، وآخر يموت حين يولد فهذا هذا .
وقال قتادة:والذي ينقص من عمره:فالذي يموت قبل ستين سنة .
وقال مجاهد:( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ) أي:في بطن أمه يكتب له ذلك ، لم يخلق الخلق على عمر واحد ، بل لهذا عمر ، ولهذا عمر هو أنقص من عمره ، وكل ذلك مكتوب لصاحبه ، بالغ ما بلغ .
وقال بعضهم:بل معناه:( وما يعمر من معمر ) أي:ما يكتب من الأجل ( ولا ينقص من عمره ) ، وهو ذهابه قليلا قليلا الجميع معلوم عند الله سنة بعد سنة ، وشهرا بعد شهر ، وجمعة بعد جمعة ، ويوما بعد يوم ، وساعة بعد ساعة ، الجميع مكتوب عند الله في كتاب .
نقله ابن جرير عن أبي مالك ، وإليه ذهب السدي ، وعطاء الخراساني . واختار ابن جرير [ القول] الأول ، وهو كما قال .
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية الكريمة:حدثنا أحمد بن يحيى بن أبي زيد بن سليمان ، سمعت ابن وهب يقول:حدثني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من سره أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أجله فليصل رحمه ".
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود ، من حديث يونس بن يزيد الأيلي ، به .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله أبو مسرح ، حدثنا عثمان بن عطاء ، عن مسلمة بن عبد الله ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال:ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد ، فيدعون له من بعده ، فيلحقه دعاؤهم في قبره ، فذلك زيادة العمر ".
وقوله:( إن ذلك على الله يسير ) أي:سهل عليه ، يسير لديه علمه بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته ، فإن علمه شامل لجميع ذلك لا يخفى منه عليه شيء .