وقوله:( لمثل هذا فليعمل العاملون ) قال قتادة:هذا من كلام أهل الجنة .
وقال ابن جرير:هو من كلام الله تعالى ، ومعناه:لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في الدنيا ، ليصيروا إليه في الآخرة .
وقد ذكروا قصة رجلين كانا شريكين في بني إسرائيل ، تدخل في ضمن عموم هذه الآية الكريمة .
قال أبو جعفر بن جرير:حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله:( إني كان لي قرين ) قال:إن رجلين كانا شريكين ، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار ، وكان أحدهما له حرفة ، والآخر ليس له حرفة ، فقال الذي له حرفة للآخر:ليس عندك حرفة ، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك ، فقاسمه وفارقه ، ثم إن الرجل اشترى دارا بألف دينار كانت لملك ، مات ، فدعا صاحبه فأراه فقال:كيف ترى هذه الدار ؟ ابتعتها بألف دينار ؟ قال:ما أحسنها ! فلما خرج قال:اللهم إن صاحبي ابتاع هذه الدار بألف دينار ، وإني أسألك دارا من دور الجنة ، فتصدق بألف دينار ، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم إنه تزوج بامرأة بألف دينار ، فدعاه وصنع له طعاما . فلما أتاه قال:إني تزوجت امرأة بألف دينار . قال:ما أحسن هذا ! فلما انصرف قال:يا رب ، إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار ، وإني أسألك امرأة من الحور العين . فتصدق بألف دينار ، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث . ثم اشترى بستانين بألفي دينار ، ثم دعاه فأراه فقال:إني ابتعت هذين البستانين . فقال:ما أحسن هذا ! فلما خرج قال:يا رب ، إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار ، وأنا أسألك بستانين في الجنة . فتصدق بألفي دينار ، ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما ، ثم انطلق بهذا المتصدق ، فأدخله دارا تعجبه ، وإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها ، ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم ، فقال عند ذلك:ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا . قال:فإنه ذاك ، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة . قال:فإنه كان لي صاحب يقول:أئنك لمن المصدقين ؟ قيل له:فإنه في الجحيم . قال:هل أنتم مطلعون ؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم . فقال عند ذلك:( تالله إن كدت لتردين . ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ) الآيات .
قال ابن جرير:وهذا يقوي قراءة من قرأ:"أئنك لمن المصدقين "بالتشديد .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عمر بن عبد الرحمن الأبار أبو حفص قال:سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية:( قال قائل منهم إني كان لي قرين . يقول أئنك لمن المصدقين ) ؟ قال:فقال لي:ما ذكرك هذا ؟ قلت:قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه ؟ فقال:أما فاحفظ ، كان شريكان في بني إسرائيل ، أحدهما مؤمن والآخر كافر ، فافترقا على ستة آلاف دينار ، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن:ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا ؟ أتجرت به في شيء ؟ فقال له المؤمن:لا فما صنعت أنت ؟ فقال:اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا قال:فقال له المؤمن:أو فعلت ؟ قال:نعم . فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ، ثم قال:اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار ، ثم يموت غدا ويتركها ، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة . قال:ثم أصبح فقسمها في المساكين . قال:ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن:ما صنعت في مالك ، أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال:لا فما صنعت أنت . قال:كانت ضيعتي قد اشتد علي مؤنتها ، فاشتريت رقيقا بألف دينار ، يقومون بي فيها ، ويعملون لي فيها . فقال له المؤمن:أوفعلت ؟ قال:نعم . قال:فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ، ثم قال:اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار ، يموت غدا ويتركهم ، أو يموتون فيتركونه ، اللهم ، وإني أشتري منك بهذه الألف الدينار رقيقا في الجنة . ثم أصبح فقسمها في المساكين . قال:ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن:ما صنعت في مالك ؟ أضربت به في شيء ؟ أتجرت به في شيء ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال:أمري كله قد تم إلا شيئا واحدا ، فلانة قد مات عنها زوجها ، فأصدقتها ألف دينار ، فجاءتني بها ومثلها معها . فقال له المؤمن:أوفعلت ؟ قال:نعم . فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ الألف الدينار الباقية ، فوضعها بين يديه ، وقال:اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا فيموت غدا فيتركها ، أو يموت فتتركه ، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف الدينار حوراء عيناء في الجنة . ثم أصبح فقسمها بين المساكين . قال:فبقي المؤمن ليس عنده شيء . قال:فلبس قميصا من قطن ، وكساء من صوف ، ثم أخذ مرا فجعله على رقبته ، يعمل الشيء ويحفر الشيء بقوته . قال:فجاءه رجل فقال:يا عبد الله ، أتؤاجرني نفسك مشاهرة ، شهرا بشهر ، تقوم على دواب لي تعلفها وتكنس سرقينها ؟ قال:نعم . قال:فواجره نفسه مشاهرة ، شهرا بشهر ، يقوم على دوابه . قال:فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه ، فإذا رأى منها دابة ضامرة ، أخذ برأسه فوجأ عنقه ، ثم يقول له:سرقت شعير هذه البارحة ؟ فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال:لآتين شريكي الكافر ، فلأعملن في أرضه فيطعمني هذه الكسرة يوما ، ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا . قال:فانطلق يريده ، فلما انتهى إلى بابه وهو ممس ، فإذا قصر مشيد في السماء ، وإذا حوله البوابون فقال لهم:استأذنوا لي صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك ، فقالوا له:انطلق إن كنت صادقا فنم في ناحية ، فإذا أصبحت فتعرض له . قال:فانطلق المؤمن ، فألقى نصف كسائه تحته ، ونصفه فوقه ، ثم نام . فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له ، فخرج شريكه الكافر وهو راكب ، فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه ، ثم قال له:ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال:بلى وهذه حالي وهذه حالك . قال:أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال:لا تسألني عنه . قال:فما جاء بك ؟ قال:جئت أعمل في أرضك هذه ، فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم ، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا . قال:لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا ، ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال:أقرضته:قال:من ؟ قال:المليء الوفي . قال:من ؟ قال:الله ربي . قال:وهو مصافحه فانتزع يده من يده ، ثم قال:( أئنك لمن المصدقين . أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ) - قال السدي:محاسبون - قال:فانطلق الكافر وتركه . قال:فلما رآه المؤمن ليس يلوي عليه ، رجع وتركه ، يعيش المؤمن في شدة من الزمان ، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان . قال:فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله المؤمن الجنة ، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار ، فيقول:لمن هذا ؟ فيقال:هذا لك . فيقول:يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال:ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم ، فيقول:لمن هذا ؟ فيقال:هؤلاء لك . فيقول:يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال:ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة ، فيها حوراء عيناء ، فيقول:لمن هذه ؟ فيقال:هذه لك . فيقول:يا سبحان الله ! أوبلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ ! قال:ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول:( إني كان لي قرين . يقول أئنك لمن المصدقين . أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ) قال:فالجنة عالية ، والنار هاوية . قال:فيريه الله شريكه في وسط الجحيم ، من بين أهل النار ، فإذا رآه المؤمن عرفه ، فيقول ( تالله إن كدت لتردين . ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين . أفما نحن بميتين . إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين . إن هذا لهو الفوز العظيم . لمثل هذا فليعمل العاملون ) بمثل ما من عليه . قال:فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة ، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة ، أشد عليه من الموت .