( يا قومنا أجيبوا داعي الله ) فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدا صلوات الله وسلامه عليه إلى الثقلين الإنس والجن حيث دعاهم إلى الله ، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين ، وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم ، وهي سورة الرحمن ; ولهذا قال ( أجيبوا داعي الله وآمنوا به )
وقوله:( يغفر لكم من ذنوبكم ) قيل:إن "من "هاهنا زائدة وفيه نظر ; لأن زيادتها في الإثبات قليل ، وقيل:إنها على بابها للتبعيض ، ( ويجركم من عذاب أليم ) أي:ويقيكم من عذابه الأليم .
وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة ، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ; ولهذا قالوا هذا في هذا المقام ، وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي قال:حدثت عن جرير ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال:لا يدخل مؤمنو الجن الجنة ; لأنهم من ذرية إبليس ، ولا تدخل ذرية إبليس الجنة .
والحق أن مؤمنهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة ، كما هو مذهب جماعة من السلف ، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله:( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) [ الرحمن:74] ، وفي هذا الاستدلال نظر ، وأحسن منه قوله تعالى:( ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ) [ الرحمن:46 ، 47] ، فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس ، فقالوا:"ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد "فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم ، وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار - وهو مقام عدل - فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة - وهو مقام فضل - بطريق الأولى والأحرى . ومما يدل أيضا على ذلك عموم قوله تعالى:( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ) [ الكهف:107] ، وما أشبه ذلك من الآيات . وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ، ولله الحمد والمنة . وهذه الجنة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا ، أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحا ؟ وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان من تكفير الذنوب والإجارة من العذاب الأليم ، هو يستلزم دخول الجنة ; لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار ، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة . ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به ، والله أعلم . وهذا نوح ، عليه السلام ، يقول لقومه:( يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ) [ نوح:4] ، ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة ، فكذلك هؤلاء . وقد حكي فيهم أقوال غريبة فعن عمر بن عبد العزيز:أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة ، وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها . ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم عكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا . ومن الناس من قال:لا يأكلون في الجنة ولا يشربون ، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس ، عوضا عن الطعام والشراب كالملائكة ، لأنهم من جنسهم . وكل هذه الأقوال فيها نظر ، ولا دليل عليها .