يقول الله تعالى:أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي:تلين عند الذكر ، والموعظة ، وسماع القرآن ، فتفهمه ، وتنقاد له ، وتسمع له ، وتطيعه .
قال عبد الله بن المبارك:حدثنا صالح المري ، عن قتادة ، عن ابن عباس أنه قال:إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن ، فقال:( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) الآية ، رواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن حسين المروزي ، عن ابن المبارك به .
ثم قال هو ومسلم:حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال - يعني الليث - عن عون بن عبد الله ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال:ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) [ الآية] إلا أربع سنين
كذا رواه مسلم في آخر الكتاب . وأخرجه النسائي عند تفسير هذه الآية ، عن هارون بن سعيد الأيلي ، عن ابن وهب ، به ، وقد رواه ابن ماجه من حديث موسى بن يعقوب الزمعي ، عن أبي حزم ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، مثله ، فجعله من مسند بن الزبير . لكن رواه البزار في مسنده من طريق موسى بن يعقوب ، عن أبي حازم ، عن عامر ، عن ابن الزبير ، عن ابن مسعود ، فذكره
وقال سفيان الثوري ، عن المسعودي ، عن القاسم قال:مل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ملة ، فقالوا:حدثنا يا رسول الله . فأنزل الله تعالى:( نحن نقص عليك أحسن القصص ) [ يوسف:3] قال:ثم ملوا ملة فقالوا:حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى:( الله نزل أحسن الحديث ) [ الزمر:23] . ثم ملوا ملة فقالوا:حدثنا يا رسول الله . فأنزل الله:( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله )
وقال قتادة:( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"إن أول ما يرفع من الناس الخشوع "
وقوله:( ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى ، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة ، وقلدوا الرجال في دين الله ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، فعند ذلك قست قلوبهم ، فلا يقبلون موعظة ، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد .
( وكثير منهم فاسقون ) أي:في الأعمال ، فقلوبهم فاسدة ، وأعمالهم باطلة . كما قال:( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ) [ المائدة:13] ، أي:فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه ، وتركوا الأعمال التي أمروا بها ، وارتكبوا ما نهوا عنه ; ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية .
وقد قال بن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا شهاب بن خراش ، حدثنا حجاج بن دينار ، عن منصور بن المعتمر ، عن الربيع بن أبي عميلة الفزاري قال:حدثنا عبد الله بن مسعود حديثا ما سمعت أعجب إلي منه ، إلا شيئا من كتاب الله ، أو شيئا قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم ، استهوته قلوبهم ، واستحلته ألسنتهم ، واستلذته ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم فقالوا:تعالوا ندع بني إسرائيل إلى كتابنا هذا ، فمن تابعنا عليه تركناه ، ومن كره أن يتابعنا قتلناه . ففعلوا ذلك ، وكان فيهم رجل فقيه ، فلما رأى ما يصنعون عمد إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شيء لطيف ، ثم أدرجه ، فجعله في قرن ، ثم علق ذلك القرن في عنقه ، فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض:يا هؤلاء ، إنكم قد أفشيتم القتل في بني إسرائيل ، فادعوا فلانا فاعرضوا عليه كتابكم ، فإنه إن تابعكم فسيتابعكم بقية الناس ، وإن أبى فاقتلوه . فدعوا فلانا ذلك الفقيه فقالوا:تؤمن بما في كتابنا ؟ قال:وما فيه ؟ اعرضوه علي . فعرضوه عليه إلى آخره ، ثم قالوا:أتؤمن بهذا ؟ قال:نعم ، آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن - فتركوه ، فلما مات نبشوه فوجدوه متعلقا ذلك القرن ، فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله ، فقال بعضهم لبعض:يا هؤلاء ، ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة . فافترقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين ملة ، وخير مللهم ملة أصحاب ذي القرن ".
قال ابن مسعود:[ وإنكم] أوشك بكم إن بقيتم - أو:بقي من بقي منكم - أن تروا أمورا تنكرونها ، لا تستطيعون لها غيرا ، فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره .
وقال أبو جعفر الطبري:حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم قال:جاء عتريس بن عرقوب إلى ابن مسعود فقال:يا أبا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر . فقال عبد الله:هلك من لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر قلبه منكرا ; إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم ، اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم ، استهوته قلوبهم ، واستحلته ألسنتهم ، وقالوا:نعرض على بني إسرائيل هذا الكتاب فمن آمن به تركناه ، ومن كفر به قتلناه . قال:فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن ، ثم جعل القرن بين ثندوتيه فلما قيل له:أتؤمن بهذا ؟ قال آمنت به - ويومئ إلى القرن بين ثندوتيه - ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب ؟ فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن