سبب النزول
وردت لنزول الآية الأولى أعلاه عدّة أسباب: منها أنّ الآية المذكورة نزلتبعد سنة من هجرة الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )تتحدّث عن المنافقين ،وذلك أنّهم سألوا سلمان الفارسي: حدّثنا عمّا في التوراة ،فخبّرهم أنّ القرآن أحسن القصص كما في قوله تعالى: ( الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربّهم ...){[5082]} وعاودوا بعدها سؤال سلمان فجاءهم هذا التوبيخ والعتاب .
وقيل كان الصحابة بمكّة مجدبين ،فلمّا هاجروا أصابوا الخير والنعمة ،فتغيّروا عمّا كانوا عليه ،فقست قلوبهم فعوتبوا من ذلك{[5083]} .
كما نلاحظ أسباب نزول أخرى للآية ،وبما أنّها تتحدّث عن نزول هذه الآية في مكّة ،لذا فإنّها غير قابلة للاعتماد ،لأنّ المشهور أنّ جميع هذه السورة قد نزلت في المدينة .
التّفسير
إلى متى هذه الغفلة ؟
بعد ما وجّهت الآيات السابقة مجموعة من الإنذارات الصارمة والتنبّهات الموقظة ،وبيّنت المصير المؤلم للكفّار والمنافقين في يوم القيامة ،جاءت الآية الأولى مورد البحث بشكل استخلاص نتيجة كليّة من ذلك ،فتقول: ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ،وما نزل من الحقّ ،ولا يكونوا كالذين اُوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ){[5084]} .
«تخشع » من مادّة «خشوع » بمعنى حالة التواضع مقترنة بالأدب الجسمي والروحي ،حيث تنتاب الإنسان هذه الحالةعادةًمقابل حقيقة مهمّة أو شخصية كبيرة .
ومن الواضح أنّ ذكر الله عز وجل إذا دخل أعماق روح الإنسان ،وسماع الآيات القرآنية بتدبّر فإنّها تكون سبباً للخشوع ،والقرآن الكريم هنا يلوم بشدّة قسماً من المؤمنين لعدم خشوعهم أمام هذه الاُمور .لأنّه قد ابتلى كثير من الأمم السابقة بمثل هذا من الغفلة والجهل .وهذه الغفلة تؤدّي إلى قساوة القلب وبالتالي إلى الفسق والعصيان .
ولهذا هل نقتنع بادّعاء الإيمان ،والعيش في رفاه والانشغال بالأكل والشرب ونمرّ أمام هذه المسائل المهمّة ببساطة ؟وهل أنّ أعمالنا ومسؤولياتنا تتناسب مع الإيمان الذي ندّعيه ؟
هذه التساؤلات لابدّ من الإجابة عنها مع أنفسنا بهدوء وموضوعية .
جملة: ( طال عليهم الأمد ) قد تكون إشارة إلى الفاصلة الزمنية بينهم وبين أنبيائهم ،ويحتمل أن يكون المقصود بها طول العمر ،أو طول الأمانيّ ،أو عدم نزول العذاب الإلهي منذ مدّة طويلة ،أو كلّ ذلك ،لأنّ كلّ واحدة من هذه الأسباب يمكن أن تكون عاملا للغفلة والقساوة ،وهي بدورها تسبّب الذنب والإثم .
جاء في حديث للإمام علي ( عليه السلام ): «لا تعالجوا الأمر قبل بلوغه فتندموا ،ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم »{[5085]} .
ونقرأ في حديث آخر عن لسان عيسى المسيح ( عليه السلام ): «لا تكثروا بالكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم ،فإنّ القلب القاسي بعيد من الله ،ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنّكم أرباب ،وانظروا في ذنوبكم كأنّكم عبيد ،والناس رجلان: مبتلى ومعافى ،فارحموا أهل البلاء ،واحمدوا الله على العافية »{[5086]} .
موعظة وتوبة:
إنّ آية: ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ...) من الآيات المثيرة في القرآن الكريم ،حيث تليّن القلب ،وترطّب الروح وتمزّق حجب الغفلة وتعلن منبّهة: ألم يأن للقلوب المؤمنة أن تخشع مقابل ذكر الله وما نزّل من الحقّ !وتحذّر من الوقوع في شراك الغفلة كما كان بالنسبة لمن سبق حيث آمنوا وتقبّلوا آيات الكتاب الإلهي ،ولكن بمرور الزمن قست قلوبهم .
لذلك نلاحظ بصورة مستمرة أنّ أفراداً مذنبين جدّاً قد هداهم الله إلى طاعته بعد سماعهم هذه الآية التي وقعت في نفوسهم كالصاعقة ،وأيقظتهم من سباتهم وغفلتهم التي كانوا فيها ،ولهذا شواهد عديدة حيث تنقل لنا كتب التاريخ العديد منها ،حتّى أنّ البعض منهم أصبح في صفّ الزهّاد والعبّاد ،ومن جملتهم العابد المعروف «فضيل بن عيّاض » الزاهد .
حيث يحكى عنه أنّه كان في أوّل أمره يقطع الطريق بين «أبيورد » و «سرخس » ،وعشق جارية ،فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ) قال: ( بلى والله قد آن ) فرجع وأوى إلى خربة فإذا فيها رفقة ،فقال بعضهم: نرتحل ،وقال بعضهم: حتّى نصبح ،فإنّ فضيلا قد قطع الطريق علينا .فتاب الفضيل وأمّنهم .
وحكي أنّه جاور الحرم حتّى مات{[5087]} .
ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد رجال البصرة المعروفين قال: بينما كنت أسير في طريق فسمعت فجأة صيحة ،فذهبت متتبعاً آثارها ،فشاهدت رجلا مغمى عليه على الأرض ،قلت: ما هذا !قالوا: رجل واعي القلب سمع آية من القرآن واندهش ،قلت: أي آية ؟قالوا: ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ...) وفجأة أفاق الرجل عند سماع صوتنا وبدأ بقراءة هذا الشعر المؤثّر:
أما آن للهجران أن ينصرما *** وللغصن غصن البان أن يتبسّما
وللعاشق الصبّ الذي ذاب وانحنى *** ألم يأن أن يبكي عليه ويرحما
كتبت بماء الشوق بين جوانحي *** كتاباً حكى نقش الوشي المنمنما
قال ذلك ثمّ سقط على الأرض .مدهوشاً مرّة أخرى ،فحرّكناه وإذا به قد سلّم روحه إلى بارئه وربّه{[5088]} .