يقول تعالى مسليا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه:( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ) أي:قد أحطنا علما بتكذيب قومك لك ، وحزنك وتأسفك عليهم ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) [ فاطر:8] كما قال تعالى في الآية الأخرى:( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) [ الشعراء:3] ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) [ الكهف:7]
وقوله:( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) أي:لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر ( ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) أي:ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم ، كما قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب ، عن علي [ رضي الله عنه] قال:قال أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وسلم -:إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب ما جئت به ، فأنزل الله:( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون )
ورواه الحاكم ، من طريق إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، ثم قال:صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة ، حدثنا بشر بن المبشر الواسطي ، عن سلام بن مسكين ، عن أبي يزيد المدني ; أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي أبا جهل فصافحه ، قال له رجل:ألا أراك تصافح هذا الصابئ ؟ ! فقال:والله إني أعلم إنه لنبي ، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا؟ ! وتلا أبو يزيد:( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون )
قال أبو صالح وقتادة:يعلمون أنك رسول الله ويجحدون .
وذكر محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل ، هو وأبو سفيان صخر بن حرب والأخنس بن شريق ، ولا يشعر واحد منهم بالآخر . فاستمعوها إلى الصباح ، فلما هجم الصبح تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال كل منهم للآخر:ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء له ثم تعاهدوا ألا يعودوا ، لما يخافون من علم شباب قريش بهم ، لئلا يفتتنوا بمجيئهم فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظنا أن صاحبيه لا يجيئان ، لما تقدم من العهود ، فلما أجمعوا جمعتهم الطريق ، فتلاوموا ، ثم تعاهدوا ألا يعودوا . فلما كانت الليلة الثالثة جاؤوا أيضا ، فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها [ ثم تفرقوا]
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال:أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال:يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها . قال الأخنس:وأنا والذي حلفت به .
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه في بيته فقال:يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال:ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف:أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا:منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ، قال:فقام عنه الأخنس وتركه
وروى ابن جرير ، من طريق أسباط ، عن السدي ، في قوله:( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة:يا بني زهرة ، إن محمدا ابن أختكم ، فأنتم أحق من كف عنه . فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم ، فإن غلب محمد رجعتم سالمين ، وإن غلب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا . فيومئذ سمي الأخنس:وكان اسمه "أبي "فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال:يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد:أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا . فقال أبو جهل:ويحك! والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجاب والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله:( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) فآيات الله:محمد - صلى الله عليه وسلم - .