مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديفي قوله تعالى:{إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} قال السدّي: التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام ،فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم ،أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ؟فإنه ليس هنا من يسمع كلامك غيري .فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قطّ ،ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة ،فماذا يكون لسائر قريش ؟فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وروى الترمذي والحاكم عن علي قال: قال أبو جهل للنبي( ص ): إنا لا نكذبك ،ولكن نكذب بما جئت به ،فأنزل الله:{فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بَِايَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .
وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب كان يكذب النبي( ص ) في العلانية ،وإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقاً ،فأنزل الله الآية .
ونلاحظ على هذه الروايات ،أنها أكدت على محاولة الفصل في التكذيب بين النبي وما جاء به ،كما في الرواية الثانية ،بينما الرواية الأولى تؤكد صدق النبي بما جاء به مطلقاً ،ولكن التكذيب الظاهري كان من أجل أن لا تكون النبوة في بني قصيّ بالإضافة إلى ما لديهم من السقاية والحجابة والندوة ،فليس هناك جحود بآيات الله ولا تكذيب للنبي في الواقع بل في الظاهر ،وهذا ما تدل عليه الرواية الثالثة التي نسبت الكلام إلى الحارث بن عامر لا إلى أبي جهل .
وهذا كله لا يتناسب مع سياق الآية التي تثير القضية على أساس الحديث مع النبي( ص ) الذي كان يعيش الحزن على رفض قومه لرسالته وتكذيبهم له ،بادّعائهم أن هذا التكذيب ليس موجهاً ضد النبي شخصياً ليعيش الحزن ،بل هي موجهة إلى الله في جحودهم بآياته ،ما يجعل الجحود لوحيه وليس له بالذات ،فإذا كانت المسألة بهذا المستوى فلا ضرورة للحزن ،لأن الله الذي جحدوا وحيه سوف يتكفل بهم بما ينزل عليهم من العذاب في الدنيا والآخرة ،وتلك هي قضية الرسل الذين لا يمثلون أنفسهم في رسالتهم بل يمثلون الله في دعوته فيتركون الأمر إليه ،فهو الذي يملك الأمر كله وهو الذي يواجه عباده بما يستحقّون ولن يضرّه ذلك في شيء .
ولذلك فإننا لا نلتقي مع سبب النزول لأنه لا ينسجم مع السياق العام للاية ،بل هوعلى الظاهراجتهاد من الرواة في تفسير السبب في مقارنتهم بين فهمهم للاية وبعض الأحداث الحاصلة في بداية الدعوة في الواقع التاريخي للسيرة .
إن هذه الروايات توحي بأن هناك من الناس من يؤمن بالدعوة سرّاً وينكرها علناً لاعتبارات ذاتية أو عائلية أو غير ذلك ،خاصة إذا كان اعتناقها يفترض الإيمان بأفكارها ومفاهيمها وصفائها على حساب ما عندهم على هدى قوله تعالى:{وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ} [ النمل:14] .
وقد جاء عن ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ،أنه حدّث أن أبا سفيان بن حرب ،وأبا جهل بن هشام ،والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ،حليف بني زهرة ،خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله( ص ) وهو يصلي من الليل في بيته ،فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه ،وكل لا يعلم بمكان صاحبه ،فباتوا يستمعون له ،حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ،فجمعهم الطريق ،فتلاوموا ،وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا ،فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً .
ثم انصرفوا ،حتى إذا كانت الليلة الثانية ،عاد كل رجلٌ منهم إلى مجلسه ،فباتوا يستمعون له ،حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ،فجمعهم الطريق ،فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرّة .ثم انصرفوا ،حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ،فباتوا يستمعون له ،حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق ،فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد ألاّ نعود .فتعاهدوا على ذلك ،ثم تفرقوا ..
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ،ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته ،فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك في ما سمعت من محمد ؟فقال: يا أبا ثعلبة ،والله لقد سمعت أشياء أعرفها ،وأعرف ما يراد بها ،وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها .قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به ..ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ،فدخل عليه في بيته ،فقال: يا أبا الحكم ،ما رأيك في ما سمعت من محمد ؟فقال: ماذا سمعت ؟قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ،أطعموا فأطعمنا ،وحملوا فحملنا ،وأعطوا فأعطينا ،حتى إذا تجاذبنا على الركب ،وكنا كفرسي رهان ،قالوا: منّا نبي يأتيه الوحي من السماء ،فمتى ندرك هذه ؟والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدّقه !قال: فقام عنه الأخنس وتركه .
إن هذه الرواية بالإضافة إلى الروايات السابقة ،توحي بأن هناك عقدةً مستعصيةً كانت تعيش في ذهنيات هؤلاء وتمنعهم من الإيمان برسول الله ،فلم تكن قضيتهم قضية كفر ينطلق من فكرة مسيطرة عليهم ،بل من واقع منحرف يفرض نفسه على مواقعهم .
وهناكفي نهاية المطافنقطة مهمة ،وهي أن هذه الآية مكية والسورة مكية ،أما الروايات فموقعهاعلى الظاهرالمدينة في معركة بدر .
القرآن يوجّه النبي إلى واقع التحدّيات
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} هل كان الرسول يشعر بالحزن الروحي على ما يواجهه به قومه من تكذيب ؟وهل كانت المسألة تمثل بالنسبة إليه حالَةً ذاتيّةً ترهقه ليحتاج إلى التسلية التي تبعد الموضوع عن التحدي الذاتي ،وتجعله بمنأى عن النتائج السلبيّة المؤثرة على المشاعر الخاصة وذلك بالإيحاء له بأن التكذيب ليس موجّهاً إليه ،بل هو موجّهٌ إلى الله من خلال ما يكذب به الظالمون من آيات الله ؟
وهل أنّ مثل هذا الأسلوب يريح النبي محمداً( ص ) ؟وإذا كان الأمر على هذا الشكل ،فهل يمكننا أن نفهم أنَّ انفعاله الشخصي يتجاوز انفعاله لله ؟وأخيراً ،هل ينسجم ذلك مع شخصية النبيّ في ما نعرفه عن إخلاصه لرسالته لربّه ؟
هذه هي علامات الاستفهام التي قد ترتسم أمام القارىء لهذه الآيات عندما يواجه معانيها من خلال الفهم الحرفي لألفاظها .
ولكننا نفهم منها أسلوباً قرآنياً يتحدّث عن تحليل الموقف الرسالي للرسول ولكل الرساليين الذين يتبعون خطاه ،في ما يمكن أن يخضع له البشر من نوازع ذاتية أمام التحديات ،فهو يوحي بوجود شيءٍ من هذا القبيل ،كفرضيّة قابلةٍ للحدوث ،ولكن ليس من الضروري أن تكون قد حدثت بالفعل ،لينتقل ،من خلال ذلك ،إلى الإيحاء بأن الموضوع لا يتحمل أيّة صدمةٍ انفعاليةٍ صعبةٍ تثقل حركة الذات في الدعوة .فإذا كانت صفة الرسالة هي التي تطبع شخصية الرسول فإن كل ردّة فعلٍ سلبيّةٍ أو إيجابيةٍ ترتبط بتلك الشخصية يجب أن تكون بعيدة عن الذات والذاتيات .وبهذا تكون القضية متعلقةً بالله الذي لا يضيره شيءٌ من تكذيبهم وجحودهم ،كما لا ينفعه شيء من إيمانهم وتصديقهم ،لأنه الغنيّ عن ذلك كله ،فلا مجال لأي انفعالٍ ،لأن الذات لا علاقة لها بالموضوع ،والرسالة المنزلة من الله لا تتأثر بذلك ،إن الله فوق الانفعال ،فماذا يبقى في الساحة ؟
إن المسألةبكل بساطةهي أن يواجه الرسول الموقف بعقليّةٍ واقعيّةٍ ،وذهنيّةٍ عمليّةٍ مرنة ،بعيداً عن كل الحالات الشعورية الذاتية .وبذلك تستمر القافلة الرسالية في سيرها الطبيعيّ ،لتصل إلى أهدافها الكبيرة في نهاية المطاف .
وفي ضوء ذلك ،تتحوّل هذه الآيات إلى خطةٍ تربويّةٍ للعمل الرسالي ،يواصل من خلالها ذاك العمل طريقه بكل موضوعيّةٍ وهدوءٍ ،تماماً كأيّ عمل يرتبط بمسؤوليته ولا يرتبط بذاته ،حيث يتحرك الداعية على أساس المعطيات الواقعية ،ومدى انسجامها مع خط المسؤولية في عمله ..فيعيش التجرد من كل ما لا يرتبط بالعمل ،ما يجعل للحركة فاعليّةً قويّة ،ويقود الموقف إلى خطوات الواقع .
وهكذا تخرج القضية من النطاق الذاتي الشخصي ،لتتّصل بالنطاق العام للرسالة وللرسول ،فلا تعود شيئاً شخصياً للنبيّ ،بل تتحوّل إلى قاعدةٍ عامّة لكل الرسل والرسالات ؛ومن هنا ،تتساقط كل علامات الاستفهام أمام شموليَّة القاعدة وثباتها .
إن القرآن يريد أن يؤكد الفكرةالخط ،في ضمير النبيالداعية ،ليفرّغ ذاته من الانفعال ،فهناك حالةٌ بشرية تحبّ التمرّد والمواجهة والهروب من المسؤوليّة .فلا بد من مواجهتها من منطق الواقع الذي يبحث في الأرض عن الإمكانيات الحاضرة والمستقبلة لانتصار الدعوة في حركتها الفاعلة ،ما يفرض المزيد من الهدوء النفسي والاتّزان العاطفي والثبات العقلي ،فالدعوة تمثل رسالة الله ،والتكذيب يواجه هذه الرسالة ..فهو يواجه الله في النهاية ،وليس هذا الأمر بدعاً في التجربة الجديدة للرسولالداعية ،فهي حلقة من حلقات السلسلة التاريخيّة لمسيرة النبوّات في التاريخ ،فقد كان هناك في المدى البعيد في الزمن الغابر أكثر من نبيّ جاء بالرسالة ،فواجهه الآخرون بالتكذيب ،فقد كان من سنّة الله أن ينطلق الرسل ضد التيار السائد فكريّاً وأخلاقيّاً وسياسيّاً واقتصادياً ،ما يفرض مواجهة التيار لهم بقوّة ،ليضعفهم وليصرعهم ،فلا بدَّ للذين يريدون أن يصارعوا التيّار ويصرعوه أن يملكوا الأعصاب القويّة الرساليّة التي لا تضعف ولا تثور ،بل تمارس القوّة بهدوء وصمود ،لتخفّف من اندفاع التيار في البداية ،ثم تقهر اندفاعه في النهاية ،ليبدأبعد ذلكخلق التيّار الجديد ،وهكذا يكون الصبر الذي يمثِّل القيمة الأخلاقية المثلى في حركة التاريخ ،شرطاً حاسماً في عملية الثبات والانتصار الكبير ..وهذا ما عبّرت عنه الآية التي تحمل تجربة الماضي إلى الحاضر ليحملها الحاضر إلى المستقبل .