/م33
فقال عز وجل:
{ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} الحزن ألم يلم بالنفس عند فقد محبوب ، أو امتناع مرغوب ، أو حدوث مكروه ، وتجب معالجته بالتسلي والتأسي وإن كان بالحق للحق ، كحزن الكاملين على إصرار الكافرين على الكفر ، وقد أثبت تعالى لرسوله هذا الحزن إثباتا مؤكدا بتعلق علمه التنجيزي به في بعض الأحيان ، أي عند ما كان يعرض له عليه السلام ، وبإن مع ضمير الشأن وبالام ، فكلمة « قد » على أصلها للتقليل ، وقيل إنها هنا للتكثير ، وإنما القلة والكثرة في متعلقات العلم لا العلم نفسه ، وقد نهاه تعالى عن هذا النوع من الحزن بقوله في سورة يونس:{ ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا أنه هو السميع العليم} [ يونس:65] وفي سورة يس:{ فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} [ يس:76] كما نهاه عن الحزن عليهم لعدم إيمانهم في سورة الحجر ( 15:88 ) والنحل ( 16:127 ) والنمل ( 27:72 ) وتقدم تفسير الحزن والمراد بالنهي عنه وأن لغة قريش فيه أن الثلاثي منه يتعدى بنفسه فيقال حزنه الأمر ، وتميم تقول أحزنه ، ومنها قراءة نافع ( ليحزنك ) بضم الياء وكسر الزاي .
والمراد بالقول الذي يحزنه منهم هو ما كانوا يقولونه فيه وفي دعوته ونبوته من تكذيب وطعن وتنفير للعرب ، ومنه بالأولى ما حكاه عنهم في الآيات السابقة وسيأتي توضيحه .وروي عن أهل التفسير المأثور أن سبب نزول الآية أقوال خاصة من بعض رؤسائهم المستكبرين تنطبق على قوله في تتمة الآية{ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( 33 )} أي فإنهم لا يجدونك كاذبا ولا يعتقدون أنك كذبت على الله فيما جئت به – وهم لم يجربوا عليك كذبا على أحد – ولكنهم يجحدون بالآيات الدالة على صدقك بإنكارها بألسنتهم فقط كما جحد قوم فرعون من قبلهم بآيات الله لأخيك موسى{ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} [ النمل:14] .
فالجحود كما قال الراغب:نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه .يقال جحد جحودا وجحدا .اه وعبارة اللسان الجحد والجحود ضد الإقرار كالإنكار .ثم نقل قول الجوهري فيه أنه الإنكار مع العلم .ويتعدى بنفسه وبالباء فيقال جحده وجحد به .
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره:« يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه{ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} أي قد أحطنا علما بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم كقوله:{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} [ فاطر:8] كما قال تعالى في الآية الأخرى{ لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين} [ الشعراء:3]{ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا} [ الكهف:6] وقوله:{ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} [ الأنعام:33] أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ، أي ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم كما قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي قال:قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم:إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به .فأنزل الله:{ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} ورواه الحاكم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق ، ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة ، حدثنا بشر بن المبشر الواسطي عن سلام بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه فقال له رجل ألا أراك تصافح هذا الصابئ ؟ فقال:والله إني لأعلم إنه لنبي ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا ؟ وتلا أبو يزيد{ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} وقال أبو صالح وقتادة:يعلمون أنك رسول الله ويجحدون .
وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل هو وأبو سفيان صخر بن حرب والأخنس بن شريق ولا يشعر أحد منهم بالآخر:فاستمعوها إلى الصباح ، فلما هجم الصبح تفرقوا فجمعتهم الطريق ، فقال كل منهم للآخر ما جاء به ، ثم تعاهدوا أن يعودوا لما يخافون من علم شبان قريش بهم لئلا يفتتنوا بمجيئهم ، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظنا أن صاحبيه لا يجيآن لما سبق من العهود ، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق فتلاوموا ثم تعاهدوا أن لا يعودوا ، فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضا فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها ثم تفرقوا ، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال:أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال:يا أبا ثعلبة ! والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها .قال الأخنس:وأنا والذي حلفت به .ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال ماذا سمعت ؟ قال:تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا{[901]} ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه .قال:فقام عنه الأخنس وتركه .
« وروى ابن جرير من طريق أسباط عن السدي في قوله:{ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة:يا بني زهرة إن محمدا ابن أختكم فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته فإنه إن كان نبيا لم تقاتلونه اليوم ؟ وإن كان كاذبا فأنتم أحق من كف عن ابن أخته ، قفوا ههنا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد رجعتم سالمين ، وإن غلب محمد فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئا فيومئذ سمي الأخنس ، وكان اسمه أبي ، فالتقى الأخنس وأبو جهل فخلا الأخنس بأبي جهل فقال:يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا ؟ فقال أبو جهل:ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله:{ فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم » اه .وما ذكر سببا لنزول الآية يصح أن يكون سببا لنزولها في ضمن السورة ولا يصح نص في نزولها منفردة ، وإلا فهو من قبيل التفسير كخبر الأخنس مع أبي جهل يوم بدر ، وذلك بعد الهجرة قطعا والسورة مكية قطعا ولم يستثن أحد هذه الآية فيما استثني .
ونقول إن في ( يكذبونك ) قراءتين – قراءة نافع والكسائي بضم الياء وتخفيف الذال من أكذبه أي وجده كاذبا أو نسبه إلى رواية الكذب بأن قال إن ما جاء به كذب وإن لم يكن هو الذي افتراه بأن كان ناقلا له مصدقا به .وقراءة الجمهور بتشديد الذال من التكذيب وهو الرمي بالكذب بمعنى إنشائه وابتدائه وبمعنى نقله وروايته .وبهذا نجمع بين قول من قال إن الصيغتين بمعنى واحد ومن قال إن معناهما مختلف .قال ثعلب:أكذبه وكذبه بمعنى ، وقد يكون « أكذبه » بمعنى بين كذبه أو حمله على الكذب وبمعنى وجده كاذبا ، اه قال في اللسان:وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة ( أي قراءته ) بأن العرب تقول كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب ، وأكذبته إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب ، قال ابن الأنباري ويمكن أن تكون « فإنهم لا يكذبونك » على معنى لا يجدونك كذابا عند البحث والتدبر والتفتيش اه .فعلم من هذه النقول أن الإكذاب يشترك مع التكذيب في معنى رواية الكذب ، وينفرد التكذيب بمعنى الرمي بافتراء الكذب إما مخاطبة كأن يقول له كذبت فيما قلت ، وإما بإسناده إليه في غيبته كأن يقول كذب فلان وافترى ، وينفرد الإكذاب بمعنى وجدان المحدث كاذبا فيما قاله بمعنى أن خبره غير مطابق للواقع ، لا بمعنى أنه افتراه ، وبمعنى الإخبار بذلك أي بعدم مطابقة الخبر للواقع .
فعلى هذا يكون المراد من مجموع القراءتين أن أولئك الكفار لا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى افتراء الكذب ولا يجدونه كاذبا في خبر يخبر به بأن يتبين أنه غير مطابق للواقع ، لأن جميع ما يخبر به من أمر المستقبل كنصر الله تعالى له وإظهار دينه وخذل أعدائه وقهرهم سيكون كما أخبر ، وكذلك كان .وإنما يدعون أن ما جاء به أخبار الغيب – وأهمها البعث والجزاء – كذب غير مطابق للواقع .ولا يقتضي ذلك أن يكون هو الذي افتراه ، فإن التكذيب قد يكون للكلام دون المتكلم الناقل ، ولكن هذا النفي يصدق على بعض المشركين لا على جميعهم كما يأتي .
وذكر الرازي في نفي التكذيب والإكذاب مع إثبات الجحود أربعة أوجه 1- أنهم ما كانوا يكذبونه صلى الله عليه وسلم في السر ولكنهم يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن والنبوة 2- أنهم لا يقولون له:إنك كذاب لأنهم جربوه الدهر الطويل فلم يكذب فيه قط ، ولكنهم جحدوا صحة النبوة والرسالة واعتقدوا أنه تخيل أنه نبي وصدق ما تخيله فدعا إليه 3- أنهم لما أصروا على التكذيب مع ظهور المعجزات القاهرة على وفق دعواه ، كان تكذيبهم تكذيبا لآيات الله المؤيدة له أو تكذيبا له سبحانه وتعالى قال:فالله تعالى قال له إن القوم ما كذبوك ولكن كذبوني:أي على معنى أن تكذيب الرسول كتكذيب المرسل المصدق له بتأييده .وذكر أنه على حد{ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله} [ الفتح:10] ومثله{ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [ الأنفال:17] 4- قال وهو كلام خطر بالبال – إن المراد إنهم لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ويقولون في كل معجزة إنها سحر « فكان التقدير إنهم لا يكذبونك على التعيين ولكن يكذبون جميع الأنبياء والرسل » اه ملخصا بالمعنى غالبا وفيه قصور .وسكت عن أقوال أخرى قديمة ( منها ) قول بعضهم فإنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره ، وهو أضعف ما قيل لأن الكلام في مشركي مكة ولا كتب عندهم ، ومنها قول بعضهم فإنهم لا يتفقون على تكذيب ولكن يكذبك الظالمون منهم الذين يجحدون بآيات الله ( ومنها ) أن المعنى فإنهم لا يعتقدون كذبك ولا يتهمونك به ولكنهم يجحدون بالآيات لظلمهم لأنفسهم .وهذا أقواها كما ترى .
تقدم أن المختار عندنا هو أن المراد هنا بما يحزنه صلى الله عليه وسلم من قولهم ما تقدم في أوائل السورة في قوله تعالى حكاية عنهم{ وقالوا لولا أنزل عليه ملك} [ الأنعام:8] وما في معناه .ويوضحه ما روي في موضوع الآية ونزولها – وهو المتبادر من النظم الكريم – فالكلام إذا في طائفة الجاحدين كبرا وعنادا كأبي جهل والأخنس وأضرابهما ، وهؤلاء لم يكونوا يعتقدون كذب النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يجدوه كاذبا في خبر يخبرهم به في المستقبل كما أنهم لم يجدوه كاذبا في يوم من أيامه الماضية ، بل عصمته من الكذب في المستقبل أظهر وأولى ، ولكنهم لظلمهم أنفسهم بالكبر والاستعلاء يجحدون بآيات الله الدالة على نبوته ورسالته بمثل زعمهم أن القرآن نفسه سحر يؤثر ، وهم لم يكونوا يعتقدون ذلك وإنما يريدون به صد العرب عنه .وأما إذا جعلت الآية عامة وأريد بما يحزنه صلى الله عليه وسلم ما كان يقوله المشركون من ضروب الأقوال في إنكار التوحيد والبعث والنبوة وسائر مسائل الدين ، ففي هذه الحالة يظهر اتجاه غير واحد من تلك الأقوال المنقولة بصدق بعضها على أناس وبعضها على آخرين ، فإن نفي التكذيب إنما يصدق على بعضهم كالجاحدين المعاندين دون جمهور الضالين الجاهلين ، وإنما كان الجحود من الرؤساء المستكبرين ظلما وعنادا على علم ، ومن المقلدين جهلا واحتقارا منهم لأنفسهم بترك النظر ، وغلوا في ثقتهم بكبرائهم وآبائهم . ولا شك في أن بعض المشركين كان يكذب النبي صلى الله عليه وسلم تكذيب الافتراء عن اعتقاد أو غير اعتقاد ، قال تعالى في سورة الفرقان:{ وقالوا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون} [ الفرقان:4] إلى قوله:{ أصيلا} ولم تكن كل العرب تعرف من سيرته وصدقه صلى الله عليه وسلم ما كان يعرفه معاشروه من قريش .