/م29
ثم بين تعالى حقيقة ما يغر الناس من الحياة الدنيا وهو التمتع الخاص بها ، والمقابلة بين ذلك وبين حظ المتقين لله فيها من الدار الآخرة ، إثر بيان ما يلقاه أولئك المفتونون بالأولى ، عند ما يصيرون إلى الثانية التي كانوا يكذبون بها ، فقال:
{ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} اللعب هو الفعل الذي لا يقصد به فاعله مقصدا صحيحا من تحصيل منفعة أو دفع مضرة ، كأفعال الأولاد الصغار التي يتلذذون بها لذاتها ، فما يعالجونه من كسر حبة نقل أو إزالة غشاء عن قطعة حلوى لأجل أكلها لا يسمى لعبا .واللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ، ويعبر عن كل ما به استمتاع باللهو .كذا قال الراغب ، وفي اللسان:اللهو ما لهوت به ولعبت به وشغلك من هوى وطرب ونحوهما .ثم قال:يقال لهوت بالشيء ألهو به لهوا وتلهيت به – إذا لعبت به وتشاغلت وغفلت به عن غيره .وأقول إن الأصل في اللهو إذا أطلق يراد به ما يشغل الإنسان من لعب وطرب ودواعي سرور وارتياح عما يتعبه ويشق عليه من الجد أو يحزنه أو يسوؤه من خطوب الدنيا ونكباتها .ثم توسع به فصار يطلق أحيانا على ما يسر ويلذ وإن لم يقصد به التشاغل عن أمور الجد ، كمغازلة النساء والاستمتاع بهن .ومنه قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي{[895]}
وقد يطلق أيضا على جد يتشاغل به عن جد آخر ، ولكن الذي عرف استعماله في ذلك الفعل لا المصدر ، فلا يقال إن هذا الفعل لهو بل يقال لهوت بكذا عن كذا أو تلهيت والتهيت به عنه .ومنه{ فأنت عنه تلهى} [ عبس:10] وإنما تشاغل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأعمى بالتصدي لدعوة كبراء قريش إلى الإسلام لا بشيء فيه طرب ولا سرور نفسي يسمى لهوا بإطلاق .
والمعنى أن هذه الحياة الدنيا التي قال الكفار إنه لا حياة غيرها – وهي ما يتمتعون به من اللذات المقصودة عندهم لذاتها ، أو الملهية لهم عن همومها وأكدارها - ليست إلا لعبا ولهوا أو كاللعب واللهو في عدم استتباعها لشيء من الفوائد والمنافع يكون في حياة بعدها ، أو هي دائرة بين عمل لا يفيد في العاقبة فهو كلعب الأطفال ، وبين عمل له فائدة عاجلة سلبية كفائدة اللهو وهو دفع الهموم والآلام ، ويوضح هذا قول بعض الحكماء أن جميع لذات الدنيا سلبية إذ هي إزالة لآلام – فلذة الطعام مزيلة لألم الجوع وبقدر هذا الألم تعظم اللذة في إزالته ، ولذة شرب الماء مزيلة لألم العطش كذلك .وأما شرب المنبهات والمخدرات كالخمر والحشيش والدخان فإنه يكون أولا بالتكلف واحتمال المكروه والألم – فإن هذه الأشياء كلها مكروهة بالطبع كما أخبر المجربون – وإنما يتكلفونه طلبا للذة متوهمة بها الشارب غيره ، ثم يصير المؤلم بالتعود ملائما بإزالته للألم المتولد منه إزالة موقتة .ذلك بأن هذه الأشياء سموم مكروهة في نفسها ومتى أثر سمها في الأعصاب بالتنبيه الزائد وغيره أعقب ذلك ضده من الفتور والألم الذي يطارد بالعود إلى الشرب كما قال أشعر السكيرين وأقدرهم على تمثيل تأثير السكر:
* وداوني بالتي كانت هي الداء{[896]} *
قال:
وكأس شربت على لذة *** وأخرى تداويت منها بها{[897]}
وهذه اللذة الأولى التي ذكرها وهمية كما قلنا لأنه لم يكن ذاقها بل توهمها وقلد بها المفتونين بالسكر .وقد يقصد بالسكر إزالة آلام أخرى غير ألم سم الخمر كالهموم والأكدار ، فإن السكر يغيب عن عقله ووجدانه فلا يشعر بآلامهما في تلك الحال ، وقد يتضاعف عليه ألم الشعور والوجدان ، وكثيرا ما يقع في آلام أخرى بدنية كالصداع والغثيان ، أو نفسية كالتي فر منها أو ما هو شر منها ، ويصدق عليه في كل حال قول أبي الطيب:
إذا اسشفيت من داء بداء *** فأقتل ما أعلك ما شفاكا{[898]}
وقد قيل إن سماع الغناء وآلات الطرب لا يدخل في عموم هذه القاعدة لأنها لذة روحية لا تعد داعيتها من الآلام ، ومن دقق النظر في هذه المسألة علم أن السماع ليس من ضروريات الحياة الشخصية ولا النوعية ولذلك كانت داعيته ضعيفة ليست كداعية الغذاء والوقاع فكان فقده غير مؤلم إلا لمن اشتد ولوعه به ، وهذا يدخل في عموم القاعدة ، ولذة السماع عند غيره-وهم الجمهور-ضعيفة بقدر ضعف الداعية .فالسماع لا يعد من أركان هذه الحياة ولا من مقاصدها الذاتية للناس ، وإنما يستروح إليه أكثر أهله لترويح النفس من آلام الحياة لا من ألم الداعية إليه ، وإنما غلب اسم « اللهو » عليه واسم « الملاهي » على آلاته ، لأنه غير مقصود لذاته .
وفي الآية وجه آخر يصح جمعه مع الأول وهو أن متاع هذه الحياة الدنيا الخاص بها متاع قليل ، أجله قصير ، لا يصح أن يغتر به العاقل الراشد ، فهو ليس إلا كلعب الأطفال في قصر مدته من حيث إن الطفل يسرع إليه الملل من كل لعبة ، أو من حيث إن زمن الطفولة قصير كله غفلة ، أو كلهو المهموم في قصر مدته ، على كونه غير مطلوب لذاته .
{ وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ( 32 )} هذا خبر مؤكد بلام القسم يفيد بمقابلته لما قبله أن نعيم الآخرة ليس كنعيم الدنيا لعبا ولهوا يعبث به العابثون ، أو يتشاغلون ويتسلون به عن الأكدار والهموم ، بل هو مما يقصده العاقل لفوائده ومنافعه الثابتة الدائمة-وأن تلك الدار للذين يتقون الشرك والشرور المحرمة خير من هذه الدار للمشركين المنكرين للبعث الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا التمتع الذي هو من قبيل اللعب في قصر مدته وعدم فائدته ، أو من قبيل اللهو في كونه دفعا لألم الهم والكدر ، أو ضجر الشقاء والتعب ، -دع ما يستلزمه من المعاصي المفضية إلى عذاب الآخرة-ذلك بأن نعيم الآخرة البدني أعلى وأكمل من نعيم الدنيا في ذاته ، وفي دوامه وثباته ، وفي كونه إيجابيا لا سلبيا ، وفي كونه غير مشوب ولا منغص بشيء من الآلام ، وفي كونه لا يعقبه ثقل ولا مرض ولا إزالة أقذار ، فما القول بنعيمها الروحاني من لقاء الله ورضوانه وكمال معرفته .والمعبر عنه عند أهل السنة برؤيته ؟ أي أتغفلون فلا تعقلون هذا الفرق أيها المكذبون بالآخرة ؟ أما لو عقلتم لآمنتم:
قال المنجم والطبيب كلاهما *** لا تبعث الأموات قلت:إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر *** أو صح قولي فالخاسر عليكما
قرأ ابن عامر ( ولدار الآخرة ) بإضافة الصفة للموصوف لمغايرتها له ، ولا نزاع بين النحاة في وقوع مثل هذا في الكلام العربي وحسبك وروده في الكتاب العزيز ، وإنما اختلف الكوفيون والبصريون في اطراده وطريقة إعرابه ، فالأولون يعربونه بغير تأويل ، والآخرون يرون أنه لم يرد إلا بمسوغ وهو هنا استعمال « الآخرة » استعمال الأسماء في مثل قوله تعالى:{ وللآخرة خير لك من الأولى} [ الضحى:4] أو مراعاة مضاف محذوف تقديره:ولدار الحياة الآخرة .لأنه في مقابلة الحياة الدنيا ، ويصح تقدير النشأة أيضا .وقرأ بعض القراء ( يعقلون ) بالياء التحتية مراعاة للغيبة ، وبعضهم بالتاء الفوقية للخطاب .
ومن مباحث نكت البلاغة أنه ورد في معنى هذه الآية قوله تعالى في سورة محمد:{ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم} [ محمد:37] وقوله:{ اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} [ الحديد:19] وقد قدم في الآيات الثلاث اللعب على اللهو ، وقال تعالى في سورة العنكبوت:{ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} [ العنكبوت:64] وقد قدم في هذه ذكر اللهو على اللعب ، وأكثر المفسرين لا يعنون ببيان نكتة لذلك لأن العطف بالواو لا يفيد ترتيبا بل مطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه .ومنهم من يرى أن مثل هذا لا يقع في كتاب الله تعالى إلا لفائدة ، وقد نقل السيد الألوسي في روح المعاني كلاما ركيكا في الفرق بين الاستعمالين عزاه إلى الدرة وقال في آخره:قاله مولانا شهاب الدين فليفهم .وهو أمر بما لا يستطاع من فهم ذلك الكلام المضطرب المبهم .
والذي يظهر لنا في نكتة ذلك أن تقديم اللعب على اللهو لا يحتاج إلى تعليل لأنه الأصل المقدم في الوجود ، وقد فصلت آية الحديد متاع الحياة الدنيا بحسب ترتيبه الذي تقتضيه الفطرة البشرية فقدم فيها اللعب لأن أول عمل للطفل يلذ له هو اللعب المقصود عنده لذاته ، وذكر بعده اللهو لما فيه من القصد الذي لا يأتي من الطفل ، لأنه لا يحصل إلا لذي الفكر ، وبعده الزينة التي هي شأن سن الصبا ، وبعده التفاخر الذي هو شأن الشبان ، وبعده التكاثر في الأموال والأولاد الذي هو شأن الكهول والشيوخ ، فالنكتة ينبغي أن تلتمس في آية العنكبوت لا في هذه الآية ولا في آيتي محمد والأنعام .
وقد وردت في سياق إقامة الحجج العقلية على المشركين ، فذكر فيها اللهو قبل اللعب على طريقة التدلي المؤذن بالانتقال من الشيء إلى ما هو دونه في نظر العقلاء ، فإن اللعب من العاقل الذي لا يليق به العبث أقبح من اللهو ، إذ اللهو تقصد به فائدة ولو سلبية ، واللعب هو العبث الذي لا تقصد به فائدة البتة ، فهو شأن الأطفال لا العقلاء العالمين بالمصالح ، الذين يقصدون بكل عمل من أعمالهم إما دفع بعض المضار ، وأما تحصيل بعض المنافع .ولذلك بين جهلهم بقوله:{ وأن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} وقال في الحجة التي قبلها{ ولكن أكثرهم لا يعقلون} ولا حاجة إلى مثل هذا التدلي في آية الأنعام التي نفسرها ، فإنها لم ترد في سياق حجج الإيمان العقلية التي يراد بها بيان ضعف نظر المشركين وجهلهم وإن ذيلت بالتوبيخ على عدم عقل ما قرر فيها ، بل وردت في بيان حقيقة الدنيا بعد الإعلام بما يصيب المفتونين بها في الآخرة بحصر همهم في لذاتها ، وتلاه بيان المقابلة بينهم وبين المؤمنين الذين يتقون الله فيها ، ففي مثل هذا السياق-كآية سورة محمد-يحسن الترتيب الوجودي ، بتقديم اللعب على اللهو الذي هو طريق الترقي ، لأنه انتقال من عبث ليس له عاقبة نافعة ، إلى لهو فائدته سلبية عاجلة ، ولذلك بين بعده أن عمل المؤمنين المتقين فيها-ومنه تمتعهم بلذاتها-يؤجرون عليه في الآخرة ، وأنها بسبب التقوى خير لهم من العاجلة .
هذا وإنني عند بلوغي هذا البحث ظفرت بكتاب [ درة التنزيل .وغرة التأويل] لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الخطيب الإسكافي{[899]} فراجعته بعد استقرار فهمي على ما تقدم ، فعلمت أنه هو الذي نقل الآلوسي عن الشهاب عنه ما لا يكاد يفهم ، وما ذلك إلا للنقل بالمعنى دون النص ، الذي كثر بسببه الخطأ في النقل ، وقد ذكر الإسكافي هذا البحث عند ذكر الآية الثامنة مما أورده من سورة الأنعام- ( وهي الآية ال70 ) الواردة في اتخاذ الكفار دينهم لعبا ولهوا- مع ما يقابلها في سورة الأعراف ( 7:50 ) من اتخاذهم دينهم لهوا ولعبا .وبهذه المناسبة ذكر آيتي الحديد والعنكبوت اللتين بينهما مثل هذا الاختلاف ، ونسي ذكر الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، وسيأتي ذكر اتخاذ الدين لعبا ولهوا في محله .
وقد اعتمد الخطيب في تفسير اللهو في الآيات أنه اجتلاب المسرة بمخالطة النساء ، وهو مخطئ في ذلك .وقال في تعليل تقديم اللعب على اللهو في سورة الحديد أن الحياة الدنيا لمن اشتغل بها ولم يتعب لغيرها مقسومة من الصبا وهو وقت اللعب ، وبعده اللهو وهو الترويح عن النفس بملاعبة النساء ، ويتبع ذلك أخذ الزينة لهن ولغيرهن ، ومن أجل الزينة نشأت مباهاة الاكتفاء ، ومفاخرة الأشكال والنظراء ، ثم بعده المكاثرة بالأموال والأولاد ، فترتيب الحياة على هذه الأحوال ، فوجب تقديم حال اللعب على اللهو اه .ثم قال في آية العنكبوت إنه لا يراد بها أن الحياة الدنيا كلها لعب ولهو الخ .ثم قال ما نصه:- « بل المراد المبالغة في وصف قصر مدة الدنيا بالإضافة إلى مدة الأخرى فكأنه قال:ما أمد الحياة الدنيا إلا كأمد أزمنة اللهو واللعب وهي أزمنة تستقصر ، لشغل النفس بحلاوة ما يستعجل ، كما قال القائل:
شهور ينقضين وما شعرنا*** بأنصاف لهن ولا سرار{[900]}
وقال المتأخر:
وليلة إحدى الليالي الغر*** لم تك غير شفق وفجر
والدليل على أن المراد ما ذكرت قبلُ ما ذكره الله بعد من قوله:{ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} أي أن حياتها تبقى أبدا ، ولا تعرف أمدا .وإنما قدم اللهو هنا على اللعب لأن الأزمنة التي يقصرها اللهو ، أكثر من الأزمنة التي يقصرها اللعب ، لأن التشاغل به أكثر ، فلما كانت معظم ما يستقصر ، وجب تقديم ما يكثر على ما هو دونه في الكثرة ، لأن ذلك آخذ بالشبه ، وأبلغ في وصف المشبه ، ولا خلاف أن الناس أزمنتهم المشغولة باللهو ، أكثر من أزمنتهم المشغولة باللعب ، وأن طيبها لهم ، يخيل قصرها إليها ، ويتفاوت طيبها ، على حسب تفاوت ميل النفس إلى محبوبها ، فمعظم ما ترى الزمان الطويل قصيرا زمان اللهو بالنساء ، وهو الذي نشأت منه فتنة الرجال وهلاك أهل الحب اه ، وما قلناه أقرب من اللفظ نسبا ، وأشد ارتباطا بالمعنى وأقوى سببا .
/خ32