يقول تعالى:( يسألونك عن الساعة ) كما قال تعالى:( يسألك الناس عن الساعة ) [ الأحزاب:63] قيل:نزلت في قريش . وقيل:في نفر من اليهود . والأول أشبه ; لأن الآية مكية ، وكانوا يسألون عن وقت الساعة ، استبعادا لوقوعها ، وتكذيبا بوجودها ; كما قال تعالى:( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) [ الأنبياء:38] ، وقال تعالى:( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ) [ الشورى:18]
وقوله:( أيان مرساها ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس:"منتهاها "أي:متى محطها ؟ وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة ؟
( قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ) أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن وقت الساعة ، أن يرد علمها إلى الله تعالى ; فإنه هو الذي يجليها لوقتها ، أي:يعلم جلية أمرها ، ومتى يكون على التحديد ، [ أي] لا يعلم ذلك [ أحد] إلا هو تعالى ; ولهذا قال:( ثقلت في السماوات والأرض )
قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله:( ثقلت في السماوات والأرض ) قال:ثقل علمها على أهل السماوات والأرض أنهم لا يعلمون . قال معمر:قال الحسن:إذا جاءت ، ثقلت على أهل السماوات والأرض ، يقول:كبرت عليهم .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله:( ثقلت في السماوات والأرض ) قال:ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة .
وقال ابن جريج:( ثقلت في السماوات والأرض ) قال:إذا جاءت انشقت السماء وانتثرت النجوم ، وكورت الشمس ، وسيرت الجبال ، وكان ما قاله الله ، عز وجل فذلك ثقلها .
واختار ابن جرير ، رحمه الله:أن المراد:ثقل علم وقتها على أهل السماوات والأرض ، كما قال قتادة .
وهو كما قالاه ، كقوله تعالى:( لا تأتيكم إلا بغتة ) ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السماوات والأرض ، والله أعلم .
وقال السدي [ في قوله تعالى] ( ثقلت في السماوات والأرض ) يقول:خفيت في السماوات والأرض ، فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل .
( لا تأتيكم إلا بغتة ) [ قال] يبغتهم قيامها ، تأتيهم على غفلة .
وقال قتادة في قوله تعالى:( لا تأتيكم إلا بغتة ) قضى الله أنها ( لا تأتيكم إلا بغتة ) قال:وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الساعة تهيج بالناس ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه "
وقال البخاري:حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه . ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه . ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه . ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها "
وقال مسلم في صحيحه:حدثني زهير بن حرب ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة ، فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة . والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم . والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم "
وقوله [ تعالى] ( يسألونك كأنك حفي عنها ) اختلف المفسرون في معناه ، فقيل:معناه:كما قال العوفي عن ابن عباس:( يسألونك كأنك حفي عنها ) يقول:كأن بينك وبينهم مودة ، كأنك صديق لهم . قال ابن عباس:لما سأل الناس محمدا صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم ، فأوحى الله إليه:إنما علمها عنده ، استأثر بعلمها ، فلم يطلع الله عليها ملكا مقربا ولا رسولا .
وقال قتادة:قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم:إن بيننا وبينك قرابة ، فأسر إلينا متى الساعة . فقال الله ، عز وجل:( يسألونك كأنك حفي عنها )
وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وأبي مالك ، والسدي ، وهذا قول . والصحيح عن مجاهد - من رواية ابن أبي نجيح وغيره -:( يسألونك كأنك حفي عنها ) قال:استحفيت عنها السؤال ، حتى علمت وقتها .
وكذا قال الضحاك ، عن ابن عباس:( يسألونك كأنك حفي عنها ) يقول:كأنك عالم بها ، لست تعلمها ، ( قل إنما علمها عند الله )
وقال معمر ، عن بعضهم:( كأنك حفي عنها ) كأنك عالم بها .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:( كأنك حفي عنها ) كأنك عالم بها ، وقد أخفى الله علمها على خلقه ، وقرأ:( إن الله عنده علم الساعة ) الآية [ لقمان:34] .
ولهذا القول أرجح في المعنى من الأول ، والله أعلم ; ولهذا قال:( قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون )
ولهذا لما جاء جبريل ، عليه السلام ، في صورة أعرابي ، يعلم الناس أمر دينهم ، فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد ، وسأله عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، ثم قال:فمتى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما المسئول عنها بأعلم من السائل "أي:لست أعلم بها منك ولا أحد أعلم بها من أحد ، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم:( إن الله عنده علم الساعة ) الآية
وفي رواية:فسأله عن أشراط الساعة ، ثم قال:"في خمس لا يعلمهن إلا الله ". وقرأ هذه الآية ، وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب:"صدقت "; ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه ، ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم "
وفي رواية قال:"وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها ، إلا صورته هذه ".
وقد ذكرت هذا الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد ، في أول شرح صحيح البخاري ، ولله الحمد والمنة
ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال:يا محمد ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:هاء - على نحو من صوته - قال:يا محمد ، متى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويحك إن الساعة آتية ، فما أعددت لها ؟ "قال:ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ، ولكني أحب الله ورسوله . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المرء مع من أحب ". فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث
وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ; أنه قال:"المرء مع من أحب "وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين .
ففيه أنه ، عليه السلام ، كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه ، أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم ، وهو الاستعداد لوقوع ذلك ، والتهيؤ له قبل نزوله ، وإن لم يعرفوا تعيين وقته .
ولهذا قال مسلم في صحيحه:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت:كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سألوه عن الساعة:متى الساعة ؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال:"إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم "يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة .
ثم قال مسلم:وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يونس بن محمد ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ; أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن يعش هذا الغلام فعسى ألا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة ". انفرد به مسلم
وحدثنا حجاج بن الشاعر ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا معبد بن هلال العنزي عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ; أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال:متى الساعة ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيهة ، ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة ، فقال:"إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة "- قال أنس:ذلك الغلام من أترابي
وقال:حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن أنس قال:مر غلام للمغيرة بن شعبة - وكان من أقراني - فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة "
ورواه البخاري في كتاب "الأدب "من صحيحه ، عن عمرو بن عاصم ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس ; أن رجلا من أهل البادية قال:يا رسول الله ، متى الساعة ؟ فذكر الحديث ، وفي آخره:"فمر غلام للمغيرة بن شعبة "، وذكره
وهذا الإطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد ب "ساعتكم "في حديث عائشة ، رضي الله عنها .
وقال ابن جريج:أخبرني أبو الزبير:أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر ، قال:"تسألوني عن الساعة ، وإنما علمها عند الله . وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة ، تأتي عليها مائة سنة "رواه مسلم
وفي الصحيحين ، عن ابن عمر مثله ، قال ابن عمر:وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن .
وقال الإمام أحمد:حدثنا هشيم ، أنبأنا العوام ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر بن عفازة عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى "، قال:"فتذاكروا أمر الساعة "، قال:"فردوا أمرهم إلى إبراهيم ، عليه السلام ، فقال:لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال:لا علم لي بها . فردوا أمرهم إلى عيسى ، فقال عيسى:أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، عز وجل ، وفيما عهد إلي ربي ، عز وجل ، أن الدجال خارج "، قال:"ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص "، قال:"فيهلكه الله ، عز وجل ، إذا رآني ، حتى إن الحجر والشجر يقول:يا مسلم ، إن تحتي كافرا تعالى فاقتله ". قال:"فيهلكهم الله ، عز وجل ، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم "، قال:"فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، فيطئون بلادهم ، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه "، قال:"ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم ، فأدعو الله ، عز وجل ، عليهم فيهلكهم ويميتهم ، حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم - أي:تنتن - "قال:"فينزل الله المطر ، فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر ".
قال أحمد:قال يزيد بن هارون:ثم تنسف الجبال ، وتمد الأرض مد الأديم - ثم رجع إلى حديث هشيم قال:ففيما عهد إلي ربي ، عز وجل ، أن ذلك إذا كان كذلك ، فإن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارا
ورواه ابن ماجه ، عن بندار عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب بسنده ، نحوه
فهؤلاء أكابر أولي العزم من المرسلين ، ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين ، وإنما ردوا الأمر إلى عيسى عليه السلام ، فتكلم على أشراطها ; لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذا لأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقتل المسيح الدجال ، ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه ، فأخبر بما أعلمه الله تعالى به .
وقال الإمام أحمد:حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا عبيد الله بن إياد بن لقيط قال:سمعت أبي يذكر عن حذيفة قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال:"علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ، ولكن سأخبركم بمشاريطها ، وما يكون بين يديها:إن بين يديها فتنة وهرجا "، قالوا:يا رسول الله ، الفتنة قد عرفناها ، فالهرج ما هو ؟ قال بلسان الحبشة:"القتل ". قال ويلقى بين الناس التناكر ، فلا يكاد أحد يعرف أحدا "لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه .
وقال وكيع:حدثنا ابن أبي خالد ، عن طارق بن شهاب ، قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت:( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) الآية [ النازعات:42] .
ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به وهذا إسناد جيد قوي .
فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم [ محمد] صلوات الله عليه وسلامه نبي الرحمة ، ونبي التوبة ، ونبي الملحمة ، والعاقب والمقفى ، والحاشر الذي تحشر الناس على قدميه ، مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد ، رضي الله عنهما:"بعثت أنا والساعة كهاتين "وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها . ومع هذا كله ، قد أمره الله تعالى أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها ، فقال:( قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون )