وقوله:( سلام هي حتى مطلع الفجر ) قال سعيد بن منصور:حدثنا هشيم ، عن أبي إسحاق عن الشعبي في قوله تعالى:( من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر ) قال:تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد ، حتى يطلع الفجر .
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"من كل امرئ سلام هي حتى مطلع الفجر ".
وروى البيهقي في كتابه "فضائل الأوقات "عن علي أثرا غريبا في نزول الملائكة ، ومرورهم على المصلين ليلة القدر ، وحصول البركة للمصلين .
وروى ابن أبي حاتم ، عن كعب الأحبار أثرا غريبا عجيبا مطولا جدا ، في تنزل الملائكة من سدرة المنتهى صحبة جبريل عليه السلام إلى الأرض ، ودعائهم للمؤمنين والمؤمنات .
وقال أبو داود الطيالسي:حدثنا عمران - يعني القطان - ، عن قتادة ، عن أبي ميمونة ، عن أبي هريرة:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر:"إنها ليلة سابعة - أو:تاسعة - وعشرين ، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى ".
وقال الأعمش ، عن المنهال عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله:( من كل أمر سلام ) قال:لا يحدث فيها أمر .
وقال قتادة وابن زيد في قوله:( سلام هي ) يعني هي خير كلها ، ليس فيها شر إلى مطلع الفجر . ويؤيد هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد:
حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا بقية ، حدثني بحير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن عبادة بن الصامت:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليلة القدر في العشر البواقي ، من قامهن ابتغاء حسبتهن ، فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهي ليلة وتر:تسع أو سبع ، أو خامسة ، أو ثالثة ، أو آخر ليلة ". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة ، كأن فيها قمرا ساطعا ، ساكنة سجية ، لا برد فيها ولا حر ، ولا يحل لكوكب يرمى به فيها حتى تصبح . وأن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ، ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ ".
وهذا إسناد حسن ، وفي المتن غرابة ، وفي بعض ألفاظه نكارة .
وقال أبو داود الطيالسي ، حدثنا زمعة ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر:"ليلة سمحة طلقة ، لا حارة ولا باردة ، وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء ".
وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها ، وهي في العشر الأواخر ، من لياليها ليلة طلقة بلجة ، لا حارة ولا باردة ، كأن فيها قمرا ، لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها ".
فصل
اختلف العلماء:هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة ، أو هي من خصائص هذه الأمة ؟ على قولين:
قال أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري:حدثنا مالك:أنه بلغه:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله - أو:ما شاء الله من ذلك - فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر وقد أسند من وجه آخر . وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر ، وقد نقله صاحب "العدة "أحد أئمة الشافعية عن جمهور العلماء ، فالله أعلم . وحكى الخطابي عليه الإجماع [ ونقله الرافعي جازما به عن المذهب] والذي دل عليه الحديث أنها كانت في الأمم الماضين كما هي في أمتنا .
قال أحمد بن حنبل:حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عكرمة بن عمار:حدثني أبو زميل سماك الحنفي:حدثني مالك بن مرثد بن عبد الله ، حدثني مرثد قال:سألت أبا ذر قلت:كيف سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ؟ قال:أنا كنت أسأل الناس عنها ، قلت:يا رسول الله ، أخبرني عن ليلة القدر ، أفي رمضان هي أو في غيره ؟ قال:"بل هي في رمضان ". قلت:تكون مع الأنبياء ما كانوا ، فإذا قبضوا رفعت ؟ أم هي إلى يوم القيامة ؟ قال:"بل هي إلى يوم القيامة ". قلت:في أي رمضان هي ؟ قال:"التمسوها في العشر الأول ، والعشر الأواخر ". ثم حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث ، ثم اهتبلت غفلته قلت:في أي العشرين هي ؟ قال:"ابتغوها في العشر الأواخر ، لا تسألني عن شيء بعدها ". ثم حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اهتبلت غفلته فقلت:يا رسول الله ، أقسمت عليك بحقي عليك لما أخبرتني في أي العشر هي ؟ فغضب علي غضبا لم يغضب مثله منذ صحبته ، وقال:"التمسوها في السبع الأواخر ، لا تسألني عن شيء بعدها ".
ورواه النسائي ، عن الفلاس ، عن يحيى بن سعيد القطان به .
ففيه دلالة على ما ذكرناه ، وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة في كل سنة [ بعد النبي صلى الله عليه وسلم] لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة من رفعها بالكلية ، على ما فهموه من الحديث الذي سنورده بعد من قوله ، عليه السلام:"فرفعت ، وعسى أن يكون خيرا لكم "; لأن المراد رفع علم وقتها عينا . وفيه دلالة على أنها ليلة القدر يختص وقوعها بشهر رمضان من بين سائر الشهور ، لا كما روي عن ابن مسعود ، ومن تابعه من علماء أهل الكوفة ، من أنها توجد في جميع السنة ، وترجى في جميع الشهور على السواء .
وقد ترجم أبو داود في سننه على هذا فقال:"باب بيان أن ليلة القدر في كل رمضان ":حدثنا حميد بن زنجويه النسائي ، أخبرنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، حدثني موسى بن عقبة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عمر قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر ، فقال:"هي في كل رمضان ".
وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أن أبا داود قال:رواه شعبة وسفيان ، عن أبي إسحاق فأوقفاه .
وقد حكي عن أبي حنيفة ، رحمه الله ، رواية أنها ترجى في جميع شهر رمضان . وهو وجه [ حكاه] الغزالي واستغربه الرافعي جدا .
فصل
ثم قد قيل:إنها في أول ليلة من شهر رمضان ، يحكى هذا عن أبي رزين . وقيل:إنها تقع ليلة سبع عشرة . وروى فيه أبو داود حديثا مرفوعا عن ابن مسعود . وروي موقوفا عليه ، وعلى زيد بن أرقم وعثمان بن أبي العاص .
وهو قول عن محمد بن إدريس الشافعي ، ويحكى عن الحسن البصري . ووجهوه بأنها ليلة بدر ، وكانت ليلة جمعة هي السابعة عشر من شهر رمضان ، وفي صبيحتها كانت وقعة بدر ، وهو اليوم الذي قال الله تعالى فيه:( يوم الفرقان ) [ الأنفال:41] .
وقيل:ليلة تسع عشرة ، يحكى عن علي وابن مسعود أيضا ، رضي الله عنهما . .
وقيل:ليلة إحدى وعشرين ; لحديث أبي سعيد الخدري قال:اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في] العشر الأول من رمضان واعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال:إن الذي تطلب أمامك . فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال:[ إن] الذي تطلب أمامك . ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا صبيحة عشرين من رمضان ، فقال:"من كان اعتكف معي فليرجع ، فإني رأيت ليلة القدر ، وإني أنسيتها ، وإنها في العشر الأواخر وفي وتر ، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء ". وكان سقف المسجد جريدا من النخل ، وما نرى في السماء شيئا ، فجاءت قزعة فمطرنا ، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق رؤياه . وفي لفظ:"في صبح إحدى وعشرين "أخرجاه في الصحيحين .
قال الشافعي:وهذا الحديث أصح الروايات .
وقيل:ليلة ثلاث وعشرين ; لحديث عبد الله بن أنيس في "صحيح مسلم "وهو قريب السياق من رواية أبي سعيد ، فالله أعلم .
وقيل:ليلة أربع وعشرين ، قال أبو داود الطيالسي:حدثنا حماد بن سلمة ، عن الجريري ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليلة القدر ليلة أربع وعشرين "إسناده رجاله ثقات .
وقال أحمد:حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن الصنابحي ، عن بلال قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليلة القدر ليلة أربع وعشرين ".
ابن لهيعة ضعيف . وقد خالفه ما رواه البخاري ، عن أصبغ ، عن ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن أبي عبد الله الصنابحي قال:أخبرني بلال - مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنها أول السبع من العشر الأواخر ، فهذا الموقوف أصح ، والله أعلم . وهكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس وجابر والحسن وقتادة وعبد الله بن وهب:أنها ليلة أربع وعشرين . وقد تقدم في سورة "البقرة "حديث واثلة بن الأسقع مرفوعا:"إن القرآن أنزل ليلة أربع وعشرين ".
وقيل:تكون ليلة خمس وعشرين ; لما رواه البخاري ، عن عبد الله بن عباس:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ، في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ". فسره كثيرون بليالي الأوتار ، وهو أظهر وأشهر . وحمله آخرون على الأشفاع كما رواه مسلم ، عن أبي سعيد ، أنه حمله على ذلك . والله أعلم .
وقيل:إنها تكون ليلة سبع وعشرين ; لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنها ليلة سبع وعشرين ".
قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان:سمعت عبدة وعاصما عن زر:سألت أبي بن كعب قلت:أبا المنذر ، إن أخاك ابن مسعود يقول:من يقم الحول يصب ليلة القدر . قال:يرحمه الله ، لقد علم أنها في شهر رمضان ، وأنها ليلة سبع وعشرين . ثم حلف . قلت:وكيف تعلمون ذلك ؟ قال:بالعلامة - أو:بالآية - التي أخبرنا بها ، تطلع ذلك اليوم لا شعاع لها ، أعني الشمس .
وقد رواه مسلم من طريق سفيان بن عيينة وشعبة والأوزاعي ، عن عبدة ، عن زر عن أبي فذكره ، وفيه:فقال:والله الذي لا إله إلا هو ، إنها لفي رمضان - يحلف ما يستثني - والله إني لأعلم أي ليلة القدر هي التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ، هي ليلة سبع وعشرين ، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها .
وفي الباب عن معاوية وابن عمر وابن عباس وغيرهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:أنها ليلة سبع وعشرين . وهو قول طائفة من السلف ، وهو الجادة من مذهب أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضا . وقد حكي عن بعض السلف أنه حاول استخراج كونها ليلة سبع وعشرين من القرآن ، من قوله:( هي ) لأنها الكلمة السابعة والعشرون من السورة ، والله أعلم .
وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني:حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن قتادة وعاصم:أنهما سمعا عكرمة يقول:قال ابن عباس:دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فسألهم عن ليلة القدر ، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر . قال ابن عباس:فقلت لعمر:إني لأعلم - أو:إني لأظن - أي ليلة القدر هي ؟ فقال عمر:أي ليلة هي ؟ [ فقلت] سابعة تمضي - أو:سابعة تبقى - من العشر الأواخر . فقال عمر:ومن أين علمت ذلك ؟ قال ابن عباس:فقلت:خلق الله سبع سموات ، وسبع أرضين ، وسبعة أيام ، وإن الشهر يدور على سبع ، وخلق الإنسان من سبع ، ويأكل من سبع ، ويسجد على سبع ، والطواف بالبيت سبع ، ورمي الجمار سبع . . . لأشياء ذكرها . فقال عمر:لقد فطنت لأمر ما فطنا له . وكان قتادة يزيد عن ابن عباس في قوله:ويأكل من سبع ، قال:هو قول الله تعالى:( فأنبتنا فيها حبا وعنبا [ وقضبا] ) الآية [ عبس:27 ، 28] .
وهذا إسناد جيد قوي ، ونص غريب جدا ، والله أعلم .
وقيل:إنها تكون في ليلة تسع وعشرين . قال أحمد بن حنبل:
حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا سعيد بن سلمة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن عمر بن عبد الرحمن ، عن عبادة بن الصامت:أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"في رمضان ، فالتمسوها في العشر الأواخر ، فإنها في وتر إحدى وعشرين ، أو ثلاث وعشرين ، أو خمس وعشرين ، أو سبع وعشرين ، [ أو تسع وعشرين] أو في آخر ليلة ".
وقال الإمام أحمد:حدثنا سليمان بن داود - وهو:أبو داود الطيالسي - ، حدثنا عمران القطان ، عن قتادة ، عن أبي ميمونة ، عن أبي هريرة . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر:"إنها ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين ، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى ".
تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به .
وقيل:إنها تكون في آخر ليلة ، لما تقدم من هذا الحديث آنفا ، ولما رواه الترمذي والنسائي من حديث عيينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي بكرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"في تسع يبقين ، أو سبع يبقين ، أو خمس يبقين ، أو ثلاث ، أو آخر ليلة ". يعني:التمسوا ليلة القدر .
وقال الترمذي:حسن صحيح . وفي المسند من طريق أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر:"إنها آخر ليلة ".
فصل
قال [ الإمام] الشافعي في هذه الروايات:صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم جوابا للسائل إذ قيل له:ألتمس ليلة القدر في الليلة الفلانية ؟ يقول:"نعم ". وإنما ليلة القدر ليلة معينة:لا تنتقل . نقله الترمذي عنه بمعناه . وروي عن أبي قلابة أنه قال:ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر .
وهذا الذي حكاه عن أبي قلابة نص عليه مالك ، والثوري ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور ، والمزني ، وأبو بكر بن خزيمة ، وغيرهم . وهو محكي عن الشافعي - نقله القاضي عنه ، وهو الأشبه - والله أعلم .
وقد يستأنس لهذا القول بما ثبت في الصحيحين ، عن عبد الله بن عمر:أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ".
وفيها أيضا عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان "ولفظه للبخاري .
ويحتج للشافعي أنها لا تنتقل ، وأنها معينة من الشهر ، بما رواه البخاري في صحيحه ، عن عبادة بن الصامت قال:خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين ، فقال:"خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان ، فرفعت ، وعسى أن يكون خيرا لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ".
وجه الدلالة منه:أنها لو لم تكن معينة مستمرة التعيين ، لما حصل لهم العلم بعينها في كل سنة ، إذا لو كانت تنتقل لما علموا تعينها إلا ذلك العام فقط ، اللهم إلا أن يقال:إنه إنما خرج ليعلمهم بها تلك السنة فقط .
وقوله:"فتلاحى فلان وفلان فرفعت ":فيه استئناس لما يقال:إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع ، وكما جاء في الحديث:"إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ".
وقوله:"فرفعت "أي:رفع علم تعينها لكم ، لا أنها رفعت بالكلية من الوجود ، كما يقوله جهلة الشيعة ; لأنه قد قال بعد هذا:"فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ".
وقوله:"وعسى أن يكون خيرا لكم "يعني:عدم تعيينها لكم ، فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محال رجائها ، فكان أكثر للعبادة ، بخلاف ما إذا علموا عينها فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط . وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها ، ويكون الاجتهاد في العشر الأواخر أكثر . ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، حتى توفاه الله عز وجل . ثم اعتكف أزواجه من بعده . أخرجاه من حديث عائشة .
ولهما عن ابن عمر:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان .
وقالت عائشة:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر ، أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وشد المئزر . أخرجاه .
ولمسلم عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره .
وهذا معنى قولها:"وشد المئزر ". وقيل:المراد بذلك:اعتزال النساء . ويحتمل أن يكون كناية عن الأمرين ، لما رواه الإمام أحمد:
حدثنا سريج ، حدثنا أبو معشر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشة قالت:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشر من رمضان شد مئزره ، واعتزل نساءه . انفرد به أحمد .
وقد حكي عن مالك رحمه الله ، أن جميع ليالي العشر في تطلب ليلة القدر على السواء ، لا يترجح منها ليلة على أخرى:رأيته في شرح الرافعي رحمه الله .
والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات ، وفي شهر رمضان أكثر ، وفي العشر الأخير منه ، ثم في أوتاره أكثر . والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء:"اللهم ، إنك عفو تحب العفو ، فاعف عني "; لما رواه الإمام أحمد:
حدثنا يزيد - هو ابن هارون - ، حدثنا الجريري - وهو سعيد بن إياس - ، عن عبد الله بن بريدة ، أن عائشة قالت:يا رسول الله ، إن وافقت ليلة القدر فما أدعو ؟ قال:"قولي:اللهم إنك عفو تحب العفو ، فاعف عني ".
وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، من طريق كهمس بن الحسن ، عن عبد الله بن بريدة ، عن عائشة قالت:قلت:يا رسول الله ، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ، ما أقول فيها ؟ قال:"قولي:اللهم ، إنك عفو تحب العفو ، فاعف عني ".
وهذا لفظ الترمذي ، ثم قال:"هذا حديث حسن صحيح ". وأخرجه الحاكم في مستدركه ، وقال:"هذا صحيح على شرط الشيخين "ورواه النسائي أيضا من طريق سفيان الثوري ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن عائشة قالت:يا رسول الله ، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ، ما أقول فيها ؟ قال:"قولي:اللهم إنك عفو تحب العفو ، فاعف عني ".
ذكر أثر غريب ونبأ عجيب ، يتعلق بليلة القدر ، رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم ، عند تفسير هذه السورة الكريمة فقال:
حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثنا سيار بن حاتم ، حدثنا موسى بن سعيد - يعني الراسبي - ، عن هلال أبي جبلة ، عن أبي عبد السلام ، عن أبيه ، عن كعب أنه قال:إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة ، مما يلي الجنة ، فهي على حد هواء الدنيا وهواء الآخرة ، علوها في الجنة ، وعروقها وأغصانها من تحت الكرسي ، فيها ملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل ، يعبدون الله عز وجل على أغصانها ، في كل موضع شعرة منها ملك . ومقام جبريل عليه السلام ، في وسطها ، فينادي الله جبريل أن ينزل في كل ليلة قدر مع الملائكة الذين يسكنون سدرة المنتهى ، وليس فيهم ملك إلا قد أعطي الرأفة والرحمة للمؤمنين ، فينزلون على جبريل في ليلة القدر ، حين تغرب الشمس ، فلا تبقى بقعة في ليلة القدر إلا وعليها ملك ، إما ساجد وإما قائم ، يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، إلا أن تكون كنيسة أو بيعة ، أو بيت نار أو وثن ، أو بعض أماكنكم التي تطرحون فيها الخبث ، أو بيت فيه سكران ، أو بيت فيه مسكر ، أو بيت فيه وثن منصوب ، أو بيت فيه جرس معلق ، أو مبولة ، أو مكان فيه كساحة البيت ، فلا يزالون ليلتهم تلك يدعون للمؤمنين والمؤمنات ، وجبريل لا يدع أحدا من المؤمنين إلا صافحه ، وعلامة ذلك من اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه ، فإن ذلك من مصافحة جبريل .
وذكر كعب أنه من قال في ليلة القدر:"لا إله إلا الله "، ثلاث مرات ، غفر الله له بواحدة ، ونجا من النار بواحدة ، وأدخله الجنة بواحدة . فقلنا لكعب الأحبار:يا أبا إسحاق ، صادقا ؟ فقال كعب وهل يقول:"لا إله إلا الله "في ليلة القدر إلا كل صادق ؟ والذي نفسي بيده ، إن ليلة القدر لتثقل على الكافر والمنافق ، حتى كأنها على ظهره جبل ، فلا تزال الملائكة هكذا حتى يطلع الفجر . فأول من يصعد جبريل حتى يكون في وجه الأفق الأعلى من الشمس ، فيبسط جناحيه - وله جناحان أخضران ، لا ينشرهما إلا في تلك الساعة - فتصير الشمس لا شعاع لها ، ثم يدعو ملكا فيصعد ، فيجتمع نور الملائكة ونور جناحي جبريل ، فلا تزال الشمس يومها ذلك متحيرة ، فيقيم جبريل ومن معه بين الأرض وبين السماء الدنيا يومهم ذلك ، في دعاء ورحمة واستغفار للمؤمنين والمؤمنات ، ولمن صام رمضان احتسابا ، ودعاء لمن حدث نفسه إن عاش إلى قابل صام رمضان لله . فإذا أمسوا دخلوا السماء الدنيا ، فيجلسون حلقا [ حلقا] فتجتمع إليهم ملائكة سماء الدنيا ، فيسألونهم عن رجل رجل ، وعن امرأة امرأة فيحدثونهم حتى يقولوا:ماذا فعل فلان ؟ وكيف وجدتموه العام ؟ فيقولون:وجدنا فلانا عام أول في هذه الليلة متعبدا ووجدناه العام مبتدعا ، ووجدنا فلانا مبتدعا ووجدناه العام عابدا قال:فيكفون عن الاستغفار لذلك ، ويقبلون على الاستغفار لهذا ، ويقولون:وجدنا فلانا وفلانا يذكران الله ، ووجدنا فلانا راكعا ، وفلانا ساجدا ، ووجدناه تاليا لكتاب الله . قال:فهم كذلك يومهم وليلتهم ، حتى يصعدون إلى السماء الثانية ، ففي كل سماء يوم وليلة ، حتى ينتهوا مكانهم من سدرة المنتهى ، فتقول لهم سدرة المنتهى:يا سكاني ، حدثوني عن الناس وسموهم لي . فإن لي عليكم حقا ، وإني أحب من أحب الله . فذكر كعب الأحبار أنهم يعدون لها ، ويحكون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم . ثم تقبل الجنة على السدرة فتقول:أخبريني بما أخبرك سكانك من الملائكة . فتخبرها ، قال:فتقول الجنة:رحمة الله على فلان ، ورحمة الله على فلانة ، اللهم عجلهم إلي ، فيبلغ جبريل مكانه قبلهم ، فيلهمه الله فيقول:وجدت فلانا ساجدا فاغفر له . فيغفر له ، فيسمع جبريل جميع حملة العرش فيقولون:رحمة الله على فلان ، ورحمة الله على فلانة ، ومغفرته لفلان ، ويقول يا رب ، وجدت عبدك فلانا الذي وجدته عام أول على السنة والعبادة ، ووجدته العام قد أحدث حدثا وتولى عما أمر به . فيقول الله:يا جبريل ، إن تاب فأعتبني قبل أن يموت بثلاث ساعات غفرت له . فيقول جبريل:لك الحمد إلهي ، أنت أرحم من جميع خلقك ، وأنت أرحم بعبادك من عبادك بأنفسهم ، قال:فيرتج العرش وما حوله ، والحجب والسماوات ومن فيهن ، تقول:الحمد لله الرحيم ، الحمد لله الرحيم .
قال:وذكر كعب أنه من صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان ألا يعصي الله ، دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب .
آخر تفسير سورة "ليلة القدر "[ ولله الحمد والمنة] .