وقوله تعالى:{ سلام هي حتى مطلع الفجر} أي إنها كانت ليلة سالمة من كل شر وأذى ،والإخبار عنها بالسلام نفسه ،وهو الأمن والسلامة للمبالغة في أنه لم يشبها كدر ؛ بل فرج الله فيها عن نبيه كل كربة ،وفتح له فيها سبل الهداية ،فأناله بذلك ما كان يتطلع إليها الأيام والشهور والطوال .
تنبيهات:
الأول:قدمنا أن ليلة القدر التي ابتدىء فيها نزول القرآن كانت في رمضان لآية{ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} ولا إجماع في تعيين تلك الليلة ،بل في ( صحيح البخاري ){[7525]}"أنها رفعت "أي رفع العلم بتعيينها ،وفي رواية فيه"نسيتها أو أنسيتها "من قوله صلوات الله عليه ،ولذا رغب في قيام رمضان كله رجاء موافقتها في ليلة منه ،نعم الأقوى رواية أنها في العشر الأخير من رمضان لما كان من اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف فيه ،وإحياء ليله ،وإيقاظ أهله ،وقد ذهب ابن مسعود والشعبي والحسن وقتادة إلى أنها ليلة أربع وعشرين ،قال ابن حجر:وحجتهم حديث وائلة أن القرآن نزل لأربع وعشرين من رمضان ،وقد اضطربت أقوال السلف فيها - صحابة ومن بعدهم - حتى أنافت على أربعين قولا .
قال الإمام:ثم الأخبار الصحيحة متضافرة على أنه في شهر رمضان ،ولا نعينها من بين لياليه ،فقد اختلفت فيها الروايات اختلافا عظيما ،وكتاب الله لم يعينها ،وما ورد في الأحاديث من ذكرها إنما قصد به حث المؤمنين على إحيائها بالعبادة ،شكرا لله تعالى على ما هداهم بهذا الدين الذي ابتدأ الله إفاضته فيهم في أثنائها ،ولهم أن يعبدوا الله فيها أفرادا وجماعات ،فمن رجح عنده خبر في ليلة أحياها ،ومن أراد أن يوافقها على التحقيق فعليه أن يشكر الله بالفراغ إليه بالعبادات في الشهر كله ،وهذا هو السر في عدم تعيينها ،وتشير إليه آية البقرة ،فإنها تجعل الشهر كله ظرفا لنزول القرآن ،ليذكر المؤمنون نعمة الله عليهم فيه .فهي ليلة عبادة وخشوع وتذكر لنعمة الحق والدين ،فلا تكون ليلة زهو ولهو تتخذ فيها مساجد الله مضامير للرياء يتسابق إليها المنافقون ،ويحدث أنفسهم بالبعد عنها المخلصون ،كما جرى عليه عمل المسلمين في هذه الأيام ،فإن كل ما حفظوه من ليلة القدر هو أن تكون لهم فيها ساعة سمر يتحدثون فيها بما لا ينظر الله إليه ،ويسمعون شيئا من كتاب الله لا ينظرون فيه ،ولا يعتبرون بمعانيه ؛ بل إن أصغوا إليه فإنما يصغون لنغمة تاليه ثم يسمعون من الأقوال ما لم يصح خبره ،ولم يحمد في الآخرين ولا الأولين أثره ،ولهم خيالات في ليلة القدر لا تليق بعقول الأطفال فضلا عن الراشدين من الرجال .انتهى .
وقال الطبري:إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة ،إذ لو كان حقا لم يخف على كل من قام ليالي السنة فضلا عن ليالي رمضان .
الثاني:حكى الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) قولا عن بعض العلماء:إن ليلة القدر خاصة بسنة واحدة وقعت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ،ولعل مستنده ما صح أنها رفعت ،وقد قدمنا معناه ،ولذا ذهب الجمهور إلى خلافه ،وعندي أن لا تنافي ؛ لأن المراد بالأول هو ليلة نزول القرآن ،وما كان فيها من التجلي الخاص التي انفردت به ،وبالثاني أن ما يوافق تلك الليلة من رمضان كل عام هي ليلة فيها مزية على غيرها بفضل اختصت به دون غيرها ،وهذا هو السر في قيام رمضان والتماسها في العشر الأواخر منه ،أعني إحياء ما ماثلها من الليالي تبركا وتيمنا وشكرا لله تعالى على تلك النعمة والهداية ،فالقائم في ليالي العشر الأواخر أو في رمضان مصادف البتة لما ماثل تلك الليلة ؛ لأنها منه قطعا ،وقد باين الإسلام في تفضيل بعض الأوقات بتشريع اتخاذها موسما للعبادة ما ابتدعه رؤساء الأديان الأخر في تذكارهم ،وجعلها أعيادا تصرف ساعاتها للبطالة والزينة واللهو مما ينافي حكمة ذكراها ،فتأمل الفرق ،واحمد الله على اتباع الحق .
الثالث:قال الإمام:ما يقوله الكثير من الناس من أن الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة النصف من شعبان ،وأن الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار ،وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر ،فهو من الجراءة على الكلام في الغيب بغير حجة قاطعة ،وليس من الجائز لنا أن نعتقد بشيء من ذلك ،ما لم يرد به خبر متواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ،ومثل ذلك لم يرده لاضطراب الروايات ،وضعف أغلبها ،وكذب الكثير منها ،ومثلها لا يصح الأخذ به في باب العقائد ،ومثل ذلك يقال في بيت العزة ،ونزول القرآن فيه جملة واحدة في تلك الليلة ،فإنه لا يجوز أن يدخل في عقائد الدين لعدم تواتر خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم ،ولا يجوز لنا الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه ،وإلا كنا من الذين{ إن يتبعون إلا الظن} نعوذ بالله ،وقد وقع المسلمون في هذه المصيبة - مصيبة الخلط بين ما يصح الاعتقاد به من غيب الله ،ويعد من عقائد الدين ،وبين ما يظن به للعمل على فضيلة من الفضائل - فاحذر أن تقع فيها مثلهم .انتهى كلامه رحمه الله تعالى .