القول في تأويل قوله تعالى:وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:وجاءت مارَّةُ الطريق من المسافرين (19)، (فأرسلوا واردهم) وهو الذي يرد المنهل والمنـزل , و "وروده إياه "، مصيره إليه ودخوله (20) .(فأدلى دلوه) يقول:أرسل دلوه في البئر.
* * *
يقال:"أدليت الدلو في البئر "إذا أرسلتها فيه , فإذا استقيت فيها قلت:"دلوْتُ أدْلُو دلوًا ".
* * *
وفي الكلام محذوف، استغنى بدلالة ما ذكر عليه، فترك , وذلك:(فأدلى دلوه)،فتعلق به يُوسف، فخرج , فقال المدلي:(يا بشرى هذا غلام) .
* * *
وبالذي قلنا في ذلك , جاءت الأخبار عن أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
18880 - حدثنا ابن وكيع , قال:حدثنا عمرو بن محمد , عن أسباط , عن السدي:(وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه) فتعلق يوسف بالحبل، فخرج , فلما رآه صاحب الحبل نادَى رجلا من أصحابه يقال له "بُشرى ":(يا بشرى هذا غلامٌ).
18881 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال:حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة:(فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه) فتشبث الغلام بالدلو , فلما خرج قال:(يا بشرى هذا غلام) .
* * *
18882 - حدثنا بشر , قال:حدثنا يزيد , قال:حدثنا سعيد , عن قتادة , قوله:(فأرسلوا واردهم) يقول:أرسلوا رسولهم , فلما أدلى دلوه تشبث بها الغلام ( ، (قال يا بشرى هذا غلام).
* * *
واختلفوا في معنى قوله::(يا بشرى هذا غلام).
فقال بعضهم:ذلك تبشير من المدلي دلوَه أصحابَه، في إصابته يوسف بأنه أصاب عبدًا (21) .
* ذكر من قال ذلك:
18883 - حدثنا بشر , قال:حدثنا يزيد , قال:حدثنا سعيد , عن قتادة:(قال يا بشرى هذا غلام) تباشروا به حين أخرجوه . وهي بئر بأرض بيت المقدس معلومٌ مكانها
18884 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال:حدثنا محمد بن ثور , عن معمر , عن قتادة:(يا بشرى هذا غلام) قال:بشّرهم واردهم حين وجدَ يوسف.
* * *
وقال آخرون:بل ذلك اسم رجل من السيَّارة بعينه، ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلِّقًا بالحبل .
* ذكر من قال ذلك:
18885 - حدثنا ابن وكيع , قال:حدثنا عمرو بن محمد , قال:حدثنا أسباط , عن السدي:(يا بشرى هذا غلام) قال:نادى رجلا من أصحابه يقال له "بشرى ",فقال:(يا بشرى هذا غلام).
18886 - حدثنا الحسن بن محمد , قال:حدثنا خلف بن هشام , قال:حدثنا يحيى بن آدم , عن قيس بن الربيع , عن السدي , في قوله:(يا بشرى هذا غلام) قال:كان اسم صاحبه "بشرى ".
18887 - حدثني المثنى , قال:حدثنا إسحاق , قال:حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد , قال:حدثنا الحكم بن ظهير , عن السدي , في قوله:(يا بشرى هذا غلام) قال:اسم الغلام "بشرى "; قال:"يا بشرى ",كما تقول ":يا زيد ".
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك:
فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة:"يا بُشْرَيَّ"بإثبات ياء الإضافة , غير أنه أدغم الألف في الياء طلبا للكسرة التي تلزم ما قبل ياء الإضافة من المتكلم، في قولهم ":غلامي"و "جاريتي"، في كل حال , وذلك من لغة طيئ , (22) كما قال أبو ذؤيب:
سَــبَقوا هَــوَيَّ وأَعْنَقُـوا لِهَـوَاهُمُ
فَتُخِــرِّمُوا وَلِكُــلِّ جَـنْبٍ مَصْـرَعُ (23)
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين:(يا بُشْرَى) بإرسال الياء وترك الإضافة .
وإذا قرئ ذلك كذلك احتمل وجهين من التأويل:
أحدهما ما قاله السدي , وهو أن يكون اسم رجل دعاه المستقي باسمه , كما يقال:"يا زيد ",و "يا عمرو ",فيكون "بشرى "في موضع رفع بالنداء.
والآخر:أن يكون أرادَ إضافة البشرى إلى نفسه , فحذف الياء وهو يريدها , فيكون مفردًا وفيه نيَّة الإضافة , كما تفعل العرب في النداء فتقول:"يا نفس اصبري",و "يا نفسي اصبري",و "يا بُنَيُّ لا تفعل ",و "يا بُنَيِّ لا تفعل ",فتفرد وترفع، وفيه نية الإضافة. وتضيف أحيانًا فتكسر , كما تقول:"يا غلامِ أقبل ",و "يا غلامي أقبل ".
* * *
قال أبو جعفر:وأعجب القراءة في ذلك إليَّ قراءةُ من قرأه بإرسال الياء وتسكينها ; لأنه إن كان اسم رجل بعينِه كان معروفًا فيهم كما قال السدي , فتلك هي القراءة الصحيحة لا شك فيها (24) . وإن كان من التبشير فإنه يحتمل ذلك إذا قرئ كذلك على ما بيَّنت.
وأما التشديد والإضافة في الياء، فقراءة شاذة، لا أرى القراءة بها , وإن كانت لغة معروفة ; لإجماع الحجة من القرأة على خلافها .
* * *
وأما قوله:(وأسروه بضاعة) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم:وأسرَّه الوارد المستقي وأصحابُه من التجار الذين كانوا معهم , وقالوا لهم ":هو بضاعة استبضعناها بعضَ أهل مصر "; لأنهم خافوا إن علموا أنهم اشتروه بما اشتروه به أن يطلبوا منهم فيه الشركة .
* ذكر من قال ذلك:
18888 - حدثني محمد بن عمرو , قال:حدثنا أبو عاصم , قال:حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد:(وأسرو بضاعة) قال:صاحب الدلو ومن معه , قالوا لأصحابهم:"إنما استبضعناه ",خيفةَ أن يشركوهم فيه إن علموا بثمنه. وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه:استوثق منه لا يأبَقْ ! حتى وَقَفوه بمصر , فقال:من يبتاعني ويُبَشَّر؟ فاشتراه الملك , والملك مُسلم.
18889 - حدثنا الحسن بن محمد , قال:حدثنا شبابة , قال:حدثنا ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بنحوه،غير أنه قال:خيفة أن يستشركوهم إن علموا به , واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه:استوثقوا منه لا يأبق ! حتى واقفوه بمصر (25)،وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو.
18890 - حدثني المثنى , قال:حدثنا أبو حذيفة , قال:حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد،
18891 - .... قال:وحدثنا إسحاق , قال:حدثنا عبد الله , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , بنحوه،غير أنه قال:خيفة أن يشاركوهم فيه، إن علموا بثمنه .
18892 - حدثنا القاسم , قال:حدثنا الحسين , قال حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن مجاهد , بنحوه،إلا أنه قال:خيفة أن يستشركوهم فيه إن علموا ثمنه . وقال أيضًا:حتى أوقفوه بمصر.
18893 - حدثنا ابن وكيع , قال:حدثنا عمرو بن محمد , قال:حدثنا أسباط , عن السدي:(وأسروه بضاعة) قال:لما اشتراه الرجلان فَرَقًا من الرفقة أن يقولوا:"اشتريناه "فيسألونهم الشركة , فقالا إن سألونا ما هذا؟ قلنا بضاعة استبضَعَناه أهل الماء . فذلك قوله:(وأسروه بضاعة) بينهم
* * *
وقال آخرون:بل معنى ذلك:وأسرّه التجار بعضهم من بعض .
* ذكر من قال ذلك:
18894 - حدثنا أبو كريب , قال:حدثنا وكيع , عن سفيان , عن رجل , عن مجاهد:(وأسروه بضاعة) قال:أسرّه التجار بعضهم من بعض.
18895 - حدثني المثنى , قال:حدثنا أبو نعيم الفضل , قال:حدثنا سفيان , عن مجاهد:(وأسروه بضاعة) قال:أسرّه التجار بعضهم من بعض.
* * *
وقال آخرون:معنى ذلك:أسرُّوا بيعَه .
* ذكر من قال ذلك:
18896 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال:أخبرنا عبد الرزاق , قال:أخبرنا معمر , عن قتادة:(وأسروه بضاعة) قال:أسروا بيعه.
18897 - حدثني الحارث , قال:حدثنا عبد العزيز , قال:حدثنا قيس , عن جابر , عن مجاهد:(وأسروه بضاعة) قال:قالوا لأهل الماء:إنما هو بضاعة .
* * *
وقال آخرون:إنما عني بقوله:(وأسروه بضاعة) إخوة يوسف، أنهم أسرُّوا شأن يوسف أن يكون أخَاهم , قالوا:هو عبدٌ لنا .
* ذكر من قال ذلك:
18898 - حدثني محمد بن سعد , قال:حدثني أبي , قال:حدثني عمي , قال:حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله:(وأسروه بضاعة) يعني:إخوة يوسف أسرُّوا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم , فكتم يوسف شأنه مخافةَ أن تقتله إخوته , واختار البيع . فذكره إخوته لوارد القوم , فنادى أصحابه قال:يا بشرى! هذا غلامٌ يباع . فباعه إخوته.
قال أبو جعفر:وأولى هذه الأقوال بالصواب:قولُ من قال:"وأسرَّ وارد القوم المدلي دلوَه ومن معه من أصحابه، من رفقته السيارة، أمرَ يوسف أنهم أشتروه، خيفةً منهم أن يستشركوهم , وقالوا لهم:هو بضاعة أبضَعَها معنا أهل الماء،وذلك أنه عقيب الخبر عنه , فلأن يكون ما وليه من الخبر خبرًا عنه , أشبهُ من أن يكون خبرًا عمَّن هو بالخبر عنه غيرُ متَّصِل (26) .
* * *
وقوله:(والله عليم بما يعملون) يقول تعالى ذكره:والله ذو علم بما يعمله باعَةُ يوسف ومشتروه في أمره، لا يخفى عليه من ذلك شيء , ولكنه ترك تغيير ذلك ليمضي فيه وفيهم حكمه السابق في علمه , وليري إخوة يوسف ويوسف وأباه قدرتَه فيه. (27)
* * *
وهذا , وإن كان خبرًا من الله تعالى ذكره عن يوسف نبيّه صلى الله عليه وسلم , فإنه تذكير من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، وتسلية منه له عما كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فيه , يقول:فاصبر، يا محمد، على ما نالك في الله , فإنّي قادرٌ على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون , كما كنت قادرًا على تغيير ما لقي يوسف من إخوته في حال ما كانوا يفعلون به ما فعلوا , ولم يكن تركي ذلك لهوان يوسف عليّ، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته , فكذلك تركي تغييرَ ما ينالك به هؤلاء المشركون لغير هوان بك عليّ , ولكن لسابق علمي فيك وفيهم , ثم يصير أمرُك وأمرهم إلى عُلوّك عليهم، وإذعانهم لك , كما صار أمر إخوة يوسف إلى الإذعان ليوسف بالسؤدد عليهم، وعلوِّ يوسف عليهم. (28)
* * *
----------------------
الهوامش:
(19) انظر تفسير"السيارة"فيما سلف 15:567 ، تعليق:1 ، والمراجع هناك .
(20) انظر تفسير"الورود"فيما سلف 15:466 .
(21) انظر تفسير"البشرى"فيما سلف من فهارس اللغة ( بشر ) .
(22) ولغة هذيل أيضًا ، كما قال الأصمعي .
(23) ديوانه ( في ديوان الهذليين ) 1:2 ، وشرح المفضليات:854 ، وغيرهما ، وهي إحدى عجائب أبي ذؤيب ، يقولها في بنيه الذين ماتوا ، سبقه بهم الطاعون في عام واحد ، وكانوا خمسة:
أَوْدَى بَنِــيَّ , وأعْقَبُــونِي غُصَّـةً
بَعْــدَ الرُّقــادِ , وعَــبْرةً لا تُقْلِـعُ
سَـــبَقوا هـــوَيَّ ..............
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَغَــبَرْتُ بَعْــدَهُمُ بعَيْشٍ نــاصِبٍ
وَإخــالُ أنِّــي لاحِــقٌ مُسْــتَتْبِعُ
يقول:سبقوني بما اختاروه من الموت والذهاب ، وساروا سيرًا حثيثًا إلى الذي اختاروه ، فتخرمتهم المنية ، فأخذتهم واحدًا بعد واحد . ولكل جنب مصرع لا يخطئه ، فحيث قدر الله له الميتة أدركته .
(24) في المطبوعة والمخطوطة:"فذلك هي ....."، والأجود ما أثبت .
(25) في المطبوعة:"حتى أوقفوه"، وأثبت ما في المخطوطة ، وهو الصواب ، وانظر هذه الرواية في رقم:18892 .
(26) انظر تفسير"الإسرار"فيما سلف 15:103 ، 239 .
(27) انظر تفسير"عليم"فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) .
(28) عند هذا الموضع انتهى الجزء الثاني عشر من مخطوطتنا ، وفي آخرها ما نصه:"نجز الجزء الثاني عشر ، بحمد الله وعونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم يتلوه في أول الجزء الثالث عشر إن شاء الله تعالى:القول في تأويل قوله تعالى:{ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين} وكان الفراغ منه في شهر رمضان المعظم سنة خمس عشرة وسبعمئة".