القول في تأويل قوله تعالى:قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
قال أبو جعفر:وهذا الخبر من الله يدلُّ على أن امرأة العزيز قد عاودت يوسف في المراودة عن نفسه , وتوعَّدته بالسّجن والحبس إن لم يفعل ما دعته إليه , فاختار السجن على ما دعته إليه من ذلك ; لأنها لو لم تكن عاودته وتوعَّدته بذلك , كان محالا أن يقول:(ربّ السجن أحبُّ إليّ مما يدعونني إليه) ، وهو لا يدعَى إلى شيء، ولا يخوَّف بحبس.
* * *
و "السجن "هو الحبس نفسه , وهو بيت الحَبْس.
* * *
وبكسر السين قرأه قرأة الأمصار كلها. والعرب تضع الأماكن المشتقة من الأفعال مواضع الأفعال (27) . فتقول:"طلعت الشمس مطلعًا , وغربت مغربًا ",فيجعلونها، وهي أسماء، خلفًا من المصادر , فكذلك "السجن ",فإذا فتحت السين من "السَّجن "كان مصدرًا صحيحًا.
* * *
وقد ذكر عن بعض المتقدمين أنه يقرأه:"السَّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ"، بفتح السين . ولا أستجيز القراءة بذلك، لإجماع الحجة من القرأة على خلافها.
* * *
قال أبو جعفر:وتأويل الكلام:قال يوسف:يا رب، الحبس في السجن أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه من معصيتك، ويراودنني عليه من الفاحشة، كما:-
19246 - حدثنا ابن وكيع , قال:حدثنا عمرو , قال:حدثنا أسباط , عن السدي:(قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه):من الزنا.
19247 - حدثنا ابن حميد , قال:حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق , قال:قال يوسف، وأضاف إلى ربه، واستغاثه على ما نـزل به (28) ( رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه) ، أي:السجن أحبّ إليّ من أن آتي ما تكره.
* * *
وقوله:(وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن) ، يقول:وإن لم تدفع عني، يا رب، فعلهن الذي يفعلن بي، في مراودتهن إياي على أنفسهن (29)، "أصب إليهن ",يقول:أمِلْ إليهن , وأتابعهن على ما يُرِدن مني ويهوَيْن.
* * *
،من قول القائل:"صَبا فلان إلى كذا ",ومنه قول الشاعر:(30)
إِلَـــى هِنْـــدٍ صَبَـــا قَلْبِــي
وَهِنْــــدٌ مِثْلُهَــــا يُصْبِـــي (31)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
* ذكر من قال ذلك:
19248 - حدثنا بشر , قال:حدثنا يزيد , قال:حدثنا سعيد , عن قتادة:(أصب إليهن) ، يقول:أتابعهن.
19249 - حدثنا ابن حميد , قال:حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق:(وإلا تصرف عني كيدهن) ، أي:ما أتخوَّف منهن، ( أصب إليهن).
19250 - حدثني يونس , قال:أخبرنا ابن وهب , قال:قال ابن زيد , في قوله:(وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) ، قال:إلا يكن منك أنت العون والمنعة , لا يكن منّي ولا عندي.
* * *
وقوله:(وأكن من الجاهلين) ، يقول:وأكن بصبوتي إليهن، من الذين جهلوا حقك، وخالفوا أمرك ونهيك، (32) كما:-
19251 - حدثنا ابن حميد , قال:حدثنا سلمة , عن ابن إسحاق:(وأكن من الجاهلين) ، أي:جاهلا إذا ركبت معصيتك.
----------------------
الهوامش:
(27) "الأفعال"يعني"المصادر"، وانظر ما سلف من فهارس المصطلحات .
(28) في المخطوطة:"وأحاف إلى ربه واستغاثه"، والصواب في الأولى ما في المطبوعة ، وفي المطبوعة"استعانه"، فأثبت ما في المخطوطة ."أضاف إلى ربه"، خاف وأشفق ، فلجأ إليه مستجيرًا به .
(29) انظر تفسير"الصرف"فيما سلف ص:49 ، تعليق 1:، والمراجع هناك .
،وتفسير"الكيد"فيما سلف ص:60 ، تعليق:1 ، والمراجع هناك .
(30) هو يزيد بن ضبة الثقفي".
(31) الأغاني 7:102 ( دار الكتب ) ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1:311 ، من أبيات له هو مطلعها ، وبعده:
وهِنْــــدٌ غَـــــادَةٌ غَيْــــدَا
ءُ مِــــنْ جُرْثُومَـــةٍ غُلْـــبِ
وَمَــــا إنْ وَجَــــدَ النَّـــاسُ
مِــــــنَ الأدْوَاءِ كـــــالحُبِّ
.
(32) انظر تفسير"الجهل"فيما سلف 13:332 ، تعليق:1 ، 2 ، والمراجع هناك .