السجن أحب من ارتكاب المعصية
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} من ارتكاب الفاحشة ،والخضوع لتأثير الإغراء ، لأن السجن مع رضاك ،أفضل عندي ،وأحب إليّ ،من الحرية واللذة والمتعة مع معصيتك ،لأن في رضاك سعادة الروح في الدنيا والآخرة ،وفي غضبك ،شقاء الروح في الدنيا والآخرة .إنني أقف بين سعادة الأبد في خط الطاعة مع ظلام السجن ،وبين شقاء الأبد في حركة المعصية ،في نور الحرية ،فأرى في السجن السعادة ،وفي الحرية الشقاء ،فَأَعِنِّييا ربعلى بلوغ رضاك ،وقوِّ إرادتي لتقف في ساحة محبتك ،وامنعني من أن أقارف معصيتك .{وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} بما تمنحني إياه من قوّة الإيمان والإرادة ،وبما تبعدني به عن أجواء الإغراء ،{أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} وأميل إلى تحقيق رغباتهن التي قد تستجيب لها رغبتي ،{وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ} الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة ،لقاء لذة فانية لا تمثل شيئاً في عالم السعادة والخلود .
بين تكبل الجسد وحرية الروح
وهكذا تتمثل ،في هذا الموقف النفسي الإيماني الروحي المتمرد على أشد أنواع الإغراء ،أروع مواقف الرفض للانحراف ،من أجل أن يستقيم للمؤمن خطّه ،ويتعمّق إيمانه ،ويستمر في حركته الصاعدة إلى الأعلى .
إنه الموقف الذي يوازن فيه الإنسان بين حرية جسده في التحرك في خط الشيطان ،وبين حرية روحه في التحرك في خط الله .
لقد فكر يوسف أن الاستسلام لرغبة امرأة العزيز وصويحباتها في ممارسة الفاحشة معهن يجعله عبداً لهن ،وبذلك يفقد إنسانيته فكراً وشعوراً وحركة إيمان ،وربما كان يفكّر أن عبوديته لامرأة العزيز التي كان يعيشها لم تكن مشكلة كبيرة له ،لأنها كانت تمثل حجزاً لحريته في حركة الحياة العادّية ،من تنقلات وتوقيت لليقظة والنوم ،وعمل على خدمتها وخدمة زوجها ولكن ذلك كله لم يكن ليقترب من عمق المضمون الروحي لإنسانيته ،ببعدها الأخلاقي والسلوكي التزاماً بأوامر الله ونواهيه .
أما الاستسلام لما يردنه له من شهوات ،فيمثل السقوط في الهاوية حيث يفقد إمكانية رفض ما يرفضه أخلاقياً وروحيّاً ،وإمكانية قبول ما يؤمن به من خلال مبادئه ورسالته ،وبهذا تتحقق عبوديته بأقسى دلالاتها في نفسه ،فلا تبقى حالة العبودية من الخارج بل تتحول إلى عبودية الإرادة والقرار ،حيث لا يملك أن يقرّر بحرّيةٍ ،ولا يستطيع أن يوجّه إرادته باستقلال ،ولهذا اختار السجن الذي تتكبل فيه حركة الجسد لتتنفس روحه هواء الحرية .وهكذا انطلق الإنسان الحر في شخصه ،ليولد مستقبلاً جديداً له يحقق من خلاله الحرّية لأمته وللناس أجمعين .
كيف نستوحي الموقف ؟
وهكذا نريد استيحاء هذا الموقف ،في كثير من المواقف التي يواجه فيها المؤمنون الضغوط القاسية: الخيار بين السجن والانحراف ،أو بين الاضطهاد والخيانة ،حيث يضطرون للمفاضلةفي كثير من الحالاتبين قضية الرسالة ،وقضية الذات ،فيختار البعض حريته تحت تأثير تبريرات تصور له التراجع كما لو أنه حالة اضطرار تحلّ فيه المعصية وتسوّغ الانحراف ،لتبني المنطق الفردي في تقييم الأمور ،بعيداً عن المنطق الجماعي الذي يربط بين حركة الفرد ،وبين النتائج السلبية أو الإيجابية على قضية الأمة والرسالة .
ولعلَّ يوسف قد أطلق هذا النداء الحي من أعماق روحه عندما وجد إرادته في موقع يتهددها بالسقوط ،فصرخ في ابتهال المؤمن أمام ربّه ،ليستعين بالله استمداداً للقوّة الكفيلة بكبح المشاعر لمصلحة الإيمان .
وهذا ما تفرضه حاجة الرسالة إلى المواقف الثابتة على خط التضحية والإيمان ،بدلاً من الكلمات الاستعراضية التي لا تحقق سوى الضوضاء التي تضيع في الهواء .
ولعله من الضروري ،لبناء هذه الشخصية ،التأكيد على تشكيل خطّة تربويّة متكاملة ،تشمل جانب الفكر والروح والشعور ،من خلال الكلمة الموحية ،والجوّ الروحي ،والقدوة الحسنة ،فإن تأسيس عمق الإحساس الداخلي بالرفض والقبول أمام ما يمكن أن يتعرض له المسلم سلباً أو إيجاباً ،يجعل من عملية الرفض والقبول تلك عملاً روحيّاً يراقب فيه ربّه ،في روحانية وصفاء ،ويتمرّد معه ،على كل النوازع الذاتية والعوامل الخارجية ،التي تحاول الانحراف به عن الخط المستقيم ،فيعيش حالة السموّ في أخلاقيته بالمستوى الذي يجعله منسجماً مع إيمانه ورساليته نظرياً وعملياً .وهذا ما يحفظ لنا المسيرة الإسلامية التي يواجه فيها الإسلام كل تحديات الكفر والضلال التي تضغط على الفكر والشعور والحركة ،مما يفرض على المؤمنين الحصول على القوّة الروحية التي تدفعهم إلى التضحية على كل الأصعدة ،والانطلاق من زوايا الحاضر نحو المستقبل الرحب ،الذي تصنعه الآلام الكبيرة لخدمة القضايا الكبيرة .