/م30
{ قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} أي قال:أي ربي ، الغالب على أمري ، العالم بسري وجهري ، إن الحبس والاعتقال في السجن مع المجرمين حيث شظف العيش أحب إلى نفسي وآثر عندي على ما يدعوني إليه هؤلاء النسوة من الاستمتاع بهن في ترف هذه القصور وزينتها ، والاشتغال بحبهن عن حبك ، وبقربهن عن قربك ، وبمغازلتهن عن مناجاتك ، وإنما يفسر ويشرح هذا بما يعلم من سياق القرآن ، ومن طباع الرجال والنسوان ، ومن التاريخ العام ، والسنن الاجتماعية والأخلاق والعادات ، وسيرة الصالحين والأنبياء دون حاجة إلى ما لا سند له ولا دليل عليه من الروايات ودسائس الإسرائيليات ، ومنه أنه ليس في السجن إلا الاعتبار بأحكام الملوك وأعوانهم من الوزراء والقضاة على من يسخطون عليهم بحق أو بغير حق ، مما يزيدني إيمانا بقضائك ، وصبرا على بلائك ، وشكرا لنعمائك ، وعلما بشؤون خلقك ، ويفتح لي باب الدعوة إلى معرفتك وتوحيدك ، والاستعداد لإقامة الحق ، ونصب ميزان العدل ، فيما عسى أن تخولني من الأمر ، إذا مكنت لي كما وعدتني في الأرض .
هذا ما يتبادر إلى الفهم من توجيه التفضيل في الحب تدل عليه حالة يوسف وسابق قصته ولاحقها بغير تكلف ولا تحكم ، كما هو دأبنا في كل ما نفسر به هذه القصة وغيرها ، وهو يصدق في جعل اسم التفضيل هنا لا مفهوم له أو على غير بابه كما يقال ، فليس المراد أن ما يدعونني إليه محبوب عندي والسجن أحب إلي منه ، وإنما معناه أن هذين الأمرين إذا تعارضا وكان لا بد من أحدهما فالسجن آثر وأولى بالترجيح لأن ما فيه من المشقة له فائدة عاجلة ، وعاقبة صالحة ، وأما مجاهدة هؤلاء النسوة مع المكث معهن ، فهو أشق على المؤمن العارف بربه ، وليس له من الفائدة والعاقبة ما للسجن ، فهو أي اسم التفضيل من قبيل قول المحدثين في بعض الأحاديث الضعيفة هو أصم ما في هذا الباب ، يعنون أقوى ما فيه وإن كانت كلها غير صحيحة ، بل هو كقول الآتي{ أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار} [ يوسف:39] .
وقيل يجوز أن يكون المراد من التفضيل ترجيح الأحب بمقتضى الإيمان وحكم الشرع ، على المحبوب بمقتضى الغريزة وداعية الطبع ، فإن الأنبياء والصلحاء كسائر البشر يحبون النساء ويشتهون الاستمتاع بهن ، ولكنهم يكرهون أن يكون من غير الوجه المشروع ، وشره الاعتداء على نساء الناس ، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم للفقراء ( وفي بضع أحدكم صدقة ) قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال ( أرأيتم إذا وضعها في حرام كان عليه وزر ؟ كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ){[1788]} رواه مسلم من حديث أبي ذر .وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله حيث لا ظل إلا ظله في موقف القيامة ( ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب إلى نفسها فقال إني أخاف الله ){[1789]} وهو حديث متفق عليه .وذلك بأن للمرأة ذات المنصب سلطانا على قلب الرجل فوق سلطان الوضيعة في طبقتها وإن كانت جميلة الصورة فيثقل على طبعه وتضعف إرادته أن يرد طلبها فكيف بها إذا جمعت بين سلطان الجمال وسلطان المنصب ثم ذلت له ودعته إلى نفسها ؟
[ فإن قيل] إن المراد إذا ابتذلت نفسها فبذلتها للرجل بذلا ، وتحول دلها عليه مهانة وذلا ، فإنه يحتقرها ، وتتحول رغبته فيها رغبة عنها{[1790]} وكلما تمنعت عليه ازداد حبا لها وشوقا إليها ، كما قال الشاعر:
منعت شيئا فأكثرت الولوع به *** أحب شيء إلى الإنسان ما منعا{[1791]}
[ قلنا] نعم إن هذا مقتضى الطبع السليم كما إن رد ذات الجمال والنصب من ضعف الرجل أمام المرأة ، ولكن المراودة قلما تبلغ من هؤلاء حد الوقاحة في الصراحة فتكون منفرة ، وقد علمت أنها احتيال ومراوغة لتحويل الإرادة ، وأن لنساء الأكابر في الأمصار التي أفسدتها الحضارة كيدا فيها وخداعا ، وإن لأستاذهن الشيطان مسالك من إغوائهن والإغواء بهن يخر أقوى الرجال تجاهها صريعا ، ولكن عباد الله المخلصين ليس له عليهم سلطان ، وعناية ربهم بهم تغلب غوايته ومكر النسوان ، وقد لجأ يوسف عليه السلام إلى هذه العناية ، إذا عرض له كيد بضع نسوة من ذوات الجمال والمنصب لا بضاعة لهن إلا أبضاعهن ، فقال{ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن} يعني إن لم تحول عني ما ينصبنه لي من شراك الكيد ، ويمددنه من شباك الصيد ، لم أسلم من الصبوة إليهن ، وهي الميل إلى موافقتهن على أهوائهن ، يقال صبا يصبو صبوا وصبوة إذا مال إلى اللهو وما يطيب للنفس من اتباع الهوى ، ومنه ريح الصبا وهي التي تهب على بلاد العرب من مشرق الشمس ، لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها ، حتى إن تغزل شعرائهم بها ليضاهي تغزلهم بعشيقاتهم رقة وصبابة ، ولا سيما إذا اقترنا وامتزجا كقول بعضهم:
خذ من صبا نجد أمانا لقلبه *** فقد كاد رياها يطير بلبه
وإياكما ذاك النسيم فإنه*** إذا هب كان الوجد أيسر خطبه
{ وأكن من الجاهلين} أي من صنف السفهاء الذين تستخفهم أهواء النفس فيعملون السوء بجهالة وهي ما يخالف مقتضى الحلم والأناة ، أو مقتضى العلم والحكمة ، فإن من يعيش بين أمثال هؤلاء النسوة الماكرات المترفات مثلي لا مفر له من الجهل إلا بعصمتك وحفظك بما هو فوق الأسباب المعتادة ، وهذا نص صريح منه عليه السلام بأنه ما صبا إليهن ، ولا أحب أن يعيش معهن ، وإنما بين مقتضى الاستهداء لكيد هؤلاء النساء ، وسأل ربه أن يديم له ما عوده في قوله{ كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء} [ يوسف:24] .