/م30
{ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه} أي حينئذ قالت لهن ما يعلم شرحه من قرينة الحال ، لما جاء في التنزيل من إيجاز وإجمال:إذا كان الأمر ما رأيتن بأعينكن ، وما أكبرتن في أنفسكن ، وما فعلتن بأيديكن ، وما قلتن بألسنتكن ، فذلكن هو الأمر البعيد الغاية الذي لمتنني فيه ، وأسرفتن في عذلي عليه ، إذ قلتن من قبل ما قلتن ، فالمشار إليه بكاف البعد هو أمر لومهن لها ، أو يوسف البعيد في حقيقته البديع في صورته عما تصورونه به ، فما هو عبراني أو كنعاني مملوك ، وخادم صعلوك ، قد شغف مولاته المالكة لرقه حبا وغراما ، فهي تراوده عن نفسه ضلالا منها وهياما ، بل هو أكبر من ذلك وأعظم ، وهو مالك روحاني ، تجلى في شكل إنساني ، أوتي من روعة الجمال ما خلب ألبابكن في الوهلة الأولى من ظهوره لكن ، فما قولكن في أمري معه وافتناني به ، وإنما ترعرع في داري ، وبلغ أشده واستوى بين سمعي وبصري ، فأنا أشاهده في قعوده وقيامه ، ويقظته ومنامه ، وطعامه وشرابه ، وحركته وسكونه ، وأخلو به في ليلي ونهاري ، فأراه بشرا سويا ، إنسيا لا جنيا ، وجسدا لا ملكا روحانيا ، فأتراءى له في زينتي ، وأعرض على نظره ما ظهر وما خفي من محاسني ، فيعرض عنها احتقارا ، فأتصباه بكل ما أملك من كلام عذب يخلب اللب ، ولين قول وخشوع صوت يرقق القلب ، فلا يصبو إليه ، وأمد عيني إلى محاسنه جامعة فيهما كل ما يكنه قلبي من صبابة وشوق وخلاعة ، مع فتور جفن ، وانكسار طرف ، وطول ترنيق وتحديق ، فلا يرفع إلي طرفا ، ولا يميل نحوي عطفا ، بل تتجلى فيه الروح الملكية بأظهر مجاليها ، والعبادة الإلهية بأكمل معانيها ، أمثل هذا الملك القاهر يسمى عبدا طائعا ، ومثل هذه المرأة المقهورة تسمى سيدة مالكة ، تأمر بل تشير فتطاع ، وينكر عليها أن تراود فترد ، ثم تريد إظهار سلطانها فتعجز ؟ لقد انكشفت القناع ، فلا أمر لمن لا يطاع{ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} أي استمسك بعروة عصمته التي ورثها عمن نشؤوا عليها ، كأنه يطلب مزيد الكمال منها .
ههنا أقول:والله ما عجبي من يوسف أن راودته مولاته فاستعصم وأن قالت له"هيت لك "فقال"أعوذ بالله "فكم قال هذا من ليس له مقامه في معرفته بالله ومراقبته لله ، وقد روي أن رجلا راود أعرابية في ليلة ليلاء ، وقال:إنه لا يرانا غير كواكب هذه السماء ، فقالت:وأين مكوكبها ؟
وإنما عجبي بل إعجابي بيوسف عليه السلام أن نظره إلى الله أو نظر الله إليه لم يدع في قلبه البشري مكانا خاليا لنظرات هذه العاشقة التي شغفها حبا ، لتصببها له قبل أن يخونها صبرها فتنفره بمصارحتها ، وإن من أقوى غرائز البشر حب الإنسان لمن يعتقد أنه يحبه ، وإن كان مشغول القلب عنه بحب من لا يحبه ، كما قيل:
ونظرة المحبوب للمحب*** والله عن إنسان عين القلب
وأما الخالي فلا يكاد يسلم من تأثير التحبب في استمالته كما قالت علية بنت المهدي العباسي:
* تحبب فإن الحب داعية الحب*
فالحب أقوى غرائز البشر ، وأكبر ما يفتن الرجال بالنساء والنساء بالرجال ، وإن من الحب لصادقا وكاذبا ، وإن من العشق لعذريا عفيفا ، وشهويا فاسقا ، وإن مفاسده في الحضارة لكبيرة ، وإن فتنته لعظيمة ، وسنعقد له فصلا في باب العبرة بالقصة في إجمال تفسير السورة .
{ ولئن لم يفعل ما آمره} به ، أقسم لكن آكد الإيمان ، ولتسمع ذلك منه الأذنان{ ليسجنن وليكونا من الصاغرين} أي الأذلة المقهورين ، تعني أن زوجها العزيز يعاقبه بما تريد من إلقائه في السجن وهو المدير له المتولي لأمره ، ومن جعله كغيره من العبيد بعد تكريم مثواه وجعله كولده ، وهذا أشد مما أنذرته أولا إذ قالت لزوجها عند التقائهما به لدى الباب:{ ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم} هنالك أنذرته أحد العقابين:سجن غير مؤكد ، أو عذاب أليم نكرة غير معرف ، قد يكون ذلك السجن المطلق بأخف صورة وأقلها ، والعذاب المنكر بأهون أنواعه وألطفها ، فذاك بحبسه في حجرة من الدار ، وهذا بلطمه يحتدم بها ما في خديه من الاحمرار ، وهنا أنذرته الجمع بينهما ، وأكدت السجن بالقسم وبنون التوكيد الثقيلة ، وفسرت العذاب بالصغار الذي تأباه الأنفس الكبيرة ، واكتفت فيه بالنون الخفيفة وهو أشق على مثل يوسف من العذاب الأليم بالأعمال الشاقة ، لأنها أهون على كرام الناس من الهوان والصغار باحتقار النفس ، وفعله صغر كتب ، وأما صغر كضخم فهو خاص بصغر الجسم ، ومن الأول قوله تعالى:{ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} [ التوبة:29] .
وفي هذا التهديد من ثقة هذا المرأة بسلطانها على زوجها الوزير الكبير على علمه بأمرها ، واستعظامه لكيدها ، ما حقه أن يخيف يوسف من تنفيذ إرادتها ، ويثبت عنده عدم غيرته عليها ، كما هو شأن كثير من الوزراء المترفين ، ولا سيما العاجزين عن حصان أزواجهن ، والمحرومين من نعمة الأولاد منهن ، وماذا فعل يوسف وما قال وقد علم أن هذه المرأة الماكرة قد عيل صبرها ، وهتكت سترها ، وكاشفت نسوة كبار بلدها بما تسر وما تعلن من أمرها ؟ ورأى أنهن تواطأن معها على كيدها ، وراودنه عن نفسه كما راودته عن نفسها ، وهو تواطؤ لا قبل لرجل به ، إلا بمعونة ربه وحفظه .