/م30
{ فلما سمعت بمكرهن} وكان من المتوقع أن تسمعه لما اعتيد بين هذه البيوتات ، من التواصل بالزيارات ، واختلاف الخدم من كل منها إلى الآخر ، وهن ما قلنه إلا لتسمعه فإن لم يصل إليها عفوا ، احتلن في إيصاله قصدا ، فكان ما أردنه{ أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا} أي دعتهن إلى الطعام في دارها ، ومكرت بهن كما مكرن بها ، بأن أعدت وهيأت لهن ما يتكئن عليه إذا جلسن من الكراسي والأرائك وهو المعتاد في دور الكبراء قال تعالى في صفة الجنة{ متكئين فيها على الأرائك} [ الكهف:31] وكان ذلك في حجرة مائدة الطعام ، وأعطت كل واحدة منهن سكينا ليقطعن به ما يأكلن من لحم أو فاكهة ، وروي عن بعض مفسري السلف تفسير المتكأ بالطعام الذي يتكأ عليه أي يعتمد عليه لأجل قطعه كالجامد والشديد القوام ، دون الرخو كالموز الناضج من الفاكهة والحساء من الطعام ، والاتكاء على الشيء هو التمكن بالجلوس عليه أو الاعتماد عليه باليد أو اليدين ، قال في المصباح المنير:وتوكأ على عصاه اعتمد عليها واتكأ جلس متمكنا وفي التنزيل{ وسررا عليها يتكئون} [ الزخرف:34] أي يجلسون وقال{ وأعدت لهن متكأ} أي مجلسا يجلسن عليه .قال ابن الأثير:والعامة لا تعرف الاتكاء إلا الميل في القعود معتمدا على أحد الشقين ، وهو يستعمل في المعنيين جميعا ، يقال اتكأ إذا أسند ظهره أو جنبه إلى شيء معتمدا عليه ، وكل من اعتمد على شيء فقد اتكأ عليه وروي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير تفسير المتكأ هنا بالأترج أو الأترنج لأنه لا يقطع إلا بالاتكاء عليه ، وفي السنة أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأكل وهو متكئ .
{ وقالت اخرج عليهن} أي أمرت يوسف بالخروج عليهن وكان في حجرة أو مخدع في داخل حجرة الطعام التي كن فيها محجوبا عنهن ، ولو كان في مكان خارج عنها لقالت ادخل عليهن ، فعلم من هذا أنها تعمدت أن يفجأهن وهن مشغولات بما يقطعنه ويأكلنه عالمة بما يكون لهذه الفجاءة من تأثير الدهشة ، وهو ما حكاه التنزيل عنهن من قوله تعالى:{ فلما رأينه أكبرنه} أي أعظمنه ودهشن لذلك الحسن الرائع ، والجمال البارع ، وغبن عن شعورهن{ وقطعن أيديهن} بدلا من تقطيع ما يأكلن ، ذهولا عما يعملن ، بأن استمرت حركة السكاكين الإرادية بعد فقد الإرادة على ما كانت عليه قبل فقدها ، ولكنها وقعت على أكف شمائلهن وقد سقط منها ما كان فيها من استرخائها بذهول تلك الدهشة فقطعتها أي جرحتها ، ولولا استرخاؤها لأباتها ، والظاهر أن مضيفتهن تعمدت جعلها مشحوذة فوق المعهودة في سكاكين الطعام مبالغة في مكرها بهن ، لتقوم لها الحجة عليهن بما لا يستطعن إنكاره .
واختلف المفسرون في هذا القطع هل كان قطع إبانة انفصلت به الكف من المعصم أو الأصابع من الكف ؟ أم قطع جرح أطلق فيه لفظ بدء الشيء على غايته من باب المبالغة ، وهو ما يسميه علماء البيان بالمجاز المرسل ؟ الأكثرون على الثاني وهو مستعمل إلى اليوم بالإرث عن قدماء العرب فيمن يحاول قطع شيء فتصيب السكين يده فتجرحها يقول كنت أقطع اللحم أو الحبل [ مثلا] فقطعت يدي ، كأنه يقول كاد ما أردته من قطع اللحم يكون بيدي مما أخطأت ، ولا يقال فيمن جرح عضو منه أو من غيره كالطيب قاصدا جرحه إنه قطعه إلا إذا بالغ فيه ، يقال أراد أن يجرح رجله ليخرج منها شظية نشبت فيها فقطعها ، يريد أنه بالغ فكاد يقطعها ، وقد أشار الزمخشري إلى مثل هذا القيد في استعمال القطع بمعنى الجرح فقال: "كما تقول كنت أقطع اللحم فقطعت يدي "يريد فأخطأت فجرحتها حتى كدت أقطعها .
{ وقلن حاش لله ما هذا بشرا} أي قلن هذا تعجبا وتنزيها لله تعالى أن يكون خلق هذا الشخص العجيب في جماله وعفته من نوع البشر وهو ما لم يعهد له في الناس مثل ، إنه ليس بشرا مثلنا{ إن هذا إلا ملك كريم} أي ما هذا إلا ملك من الملائكة الروحانيين تمثل في هذه الصورة البديعة التي تدهش الأبصار وتخلب الألباب [ كما كان يصور لهم صناعهم الرسامون والنحاتون أرواح الملائكة والآلهة بالصور والتماثيل لتكريمها وعبادتها] وأحسن كلمة رويت في الآية عن مفسري السلف قول ابن زيد بن أسلم المدني:أعطتهن أترنجا وعسلا فكن يحززن الأترنج قد ذهبت عقولهن مما رأين وقلن{ حاشا لله ما هذا بشرا} ما هكذا يكون البشر ما هذا إلا ملك كريم .اه .ففسر قطع الأيدي بحزها والحز أقل ما يحدثه السكين كالفرض في الخشبة ، وهنا يتساءل المتسائلون:ماذا قالت لهن ، وقد غلب مكرها مكرهن ؟ وصار حالها حالهن كما قال الشاعر:
أبصره عاذلي عليه *** ولم يكن قبلها رآه
فقال لي لو عشقت هذا *** ما لامك الناس في هواه
فظل من حيث ليس يدري *** يأمر بالعشق من نهاه