{فَاسَتَعْصَمَ}: طلب العصمة وامتنع عما أرادت منه .
تبرير الانحراف
وهنا جاء دور امرأة العزيز لتدافع وتبرر علاقتها المنحرفة بيوسف التي عرضتها لهجوم هؤلاء النسوة ،{قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} فإذا كنتن قد فقدتنّ شعوركن وإراداتكن وعقولكنَّ أمام النظرة الأولى لهذا الملاك الجميل ،فما حال المرأة التي تعيش معه في البيت في كل أوقاتها ،في خلوة كاملة ،توحي لها بكل إغراء الحرية ،أمام إغراء الجمال ،فهل عليّ لوم إن فعلت ما فعلت ،أو ثارت عواطفي تجاهه ،إنها التجربة الصعبة التي لا مثيل لها ،فالنيران تلهب مشاعري وأحاسيسي وغرائزي كالجحيم ،دون أن أتمكن من إطفائها ،بل أعاني الشعور بالحقارة أمام نظرته المتعفّفة الورعة المتعالية عن الإغراء التي ترفض كل هذا الجمال الذي أقدّمه له ،وتستهين به ،وتحتقره ،كما يثير فيّ الرغبة التي تشتد أمام الامتناع من جهةٍ أخرى .
يوسف بين ضغوط الإغراء والتهديد بسجنه
وربما شعرت أن حديثها يضعها في موقف الضعف ،فكيف يمتنع هذا العبد عليها ،وهي السيدة المالكة له ،المسيطرة عليه ،وكيف يرفضها وهي التي تساقط كل الرجال تحت أقدامها ؟ولهذا أرادت أن تستعرض قوتها أمامه ،وأمامهنّ ،لئلا يحتقرن موقعها منه فقالت:{وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ} من الخضوع لرغباتي وشهواتي ،{لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّن الصَّاغِرِينَ} بما أملكه من تأثيرٍ على زوجي وعلى أولي الأمر ،يتيح لي الضغط لإدخاله السجن حيث يشعر بحقارة موقعه ،ويعرف حقيقة قدره ،فيقف عند حدوده ،ولا يتمرّد على أسياده ،ولا يتعالى على رغباتهم في وقفة عزٍّ وكبرياء .
وشعر يوسف بأنه محاصر بهذا الجمال المتنوع بين امرأة العزيز التي تدعوه إلى نفسها في الليل والنهار بكل ما تملكه من أساليب الإغراء والإغواء ،بهدف إثارة غريزته وشهوته ،وبين هؤلاء النسوة اللاتي عرفنه في هذا اللقاء ،وبدأن يراودنه عن نفسه ،بطريقة خفيّةٍ أو معلنةٍ ،وربما يلاحقنه في المستقبل ليؤثرن عليه ،وقد يحاولن الضغط عليه بتهديده بطريقة أو بأخرى ،بالسجن أو غيره ،كما ذكرت امرأة العزيز ...فماذا يفعل ؟إنه يخشى على نفسه أن يميل إليهن ،ويسقط في التجربة أخيراً ،لأن القدرة على المقاومة قد تضعف وتتلاشى أمام ضغوط الإغراء ،ونداء الغريزة .
اللجوء إلى الله
إن يوسف بشرٌ كبقية البشر ،يتأثر بما يتأثرون به ،ويستجيب لما يستجيبون له ،ولولا رعاية الله وعصمته له ،لانقاد لها في ما دعته إليه ولكنه ها هو يستعين بالله ،في هذا الموقف كما استعان به في الموقف السابق ،ويريد له أن ينقذه الآن ،كما أنقذه من قبل ،إنه يفضّل كل مصائب الدنيا وآلامها ،على موقف معصية لربه ،ولهذا لجأ إلى الله وصرخ بكل قلبه ،في دعاءٍ خاشع حارٍ مبتهل ،وبروحية العبد الذي تحضر كل مشاعره وأحاسيسه ،ويتحرك كل عقله وإرادته ،طلباً للنجاة من ملاحقة الشيطان له ،الذي يريد إسقاط عفته وأمانته وإرادته ،ويبعده عن محبة الله ،إنه ينشد الخلاص من هذا الحصار الشهوانيّ الغريزيّ الذي يعرض عليه الجمال المتنوع بكل كنوزه .