قال أبو جعفر:اختلف أهلُ العلم بكلام العرب في مُرَافع "المثل ",(1)
فقال بعض نحويي الكوفيين:الرافع للمثل قوله:(تجري من تحتها الأنهار) ، في المعنى, وقال:هو كما تقول:"حِلْيَةُ فلان، أسمرُ كذا وكذا "فليس "الأسمر "بمرفوع بالحلية, إنما هو ابتداءٌ، أي هو أسمر هو كذا . قال:ولو دخل "أنّ"في مثل هذا كان صوابًا . قال:ومِثْلُه في الكلام:"مَثَلُك أنَّك كذا وأنك كذا "، وقوله:فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا[سورة عبس:24 ، 25] مَنْ وجَّه،مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا، ومن قال:أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ، أظهر الاسم لأنه مردودٌ على "الطعام "بالخفض, ومستأنف, أي:طَعامُهُ أنَّا صببنا ثم فعلنا . وقال:معنى قوله:(مثل الجنة) ، صفات الجنّة .
* * *
وقال بعض نحويي البصريين:معنى ذلك:صفةُ الجنة قال:ومنه قول الله تعالى:وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى[سورة الروم:27]، معناه:ولله الصِفة العُليَا . قال:فمعنى الكلام في قوله:(مثلُ الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتِها الأنهار) ، أو فيها أنهار, (2) كأنه قال:وَصْف الجنة صفة تجري من تحتها الأنهار, أو صفة فيها أنهار ، والله أعلم .
قال:ووجه آخر كأنه إذا قيل:(مَثَلُ الجنة), قيل:الجنَّة التي وُعِدَ المتقون . قال . وكذلك قوله:وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[سورة النمل:30]، كأنه قال:بالله الرحمن الرحيم, والله أعلم .
قال:وقوله:عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ[سورة الزمر:56] ، في ذات الله, كأنه عندَنا قيل:في الله .
قال:وكذلك قوله:لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ[سورة الشورى:11]، إنما المعنى:ليس كشيء, وليس مثله شيء, لأنه لا مثْلَ له . قال:وليس هذا كقولك للرجل:"ليس كمثلك أحدٌ",لأنه يجوز أن يكون له مثلٌ, والله لا يجوز ذلك عليه . قال:ومثلُه قول لَبيد:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا (3)
قال:وفُسِّر لنا أنه أراد:السلام عليكما:
قال أوس بن حجر:
وَقَتْــلَى كِــرَامٍ كَمِثْــلِ الجُـذُوعِ
تَغَشَّــــاهُمُ سَـــبَلُ مُنْهِمـــرْ (4)
قال:والمعنى عندنا:كالجذوع, لأنه لم يرد أن يجعل للجذوع مَثَلا ثمّ يشبه القتلى به . قال:ومثله قول أمية:
زُحَـلٌ وَثَـوْرٌ تَحْـتَ رِجْـلِ يَمِينِـهِ
وَالنَّسْــرُ لِلأخْـرَى وَلَيْـثٌ مُرْصِـدُ (5)
قال فقال:"تحت رجل يمينه "كأنه قال:تَحْتَ رِجله، أو تحت رِجله اليُمْنَى. قال:وقول لَبيد:
أَضَـــلَّ صِـــوَارَهُ وَتَضَيَّفَتْــهُ
نَطُــوفٌ أَمْرُهَــا بِيَــدِ الشَّـمَالِ (6)
كأنه قال:أمرها بالشمال، وإلى الشمال ; وقول لَبيد أيضًا:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِر (7)
فكأنه قال:حتى وَقَعت في كافر .
* * *
وقال آخر منهم:هو من المكفوف عن خبَره. (8) قال:والعرب تفعل ذلك . قال:وله معنى آخر:لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى، مَثَلُ الجنة، موصولٌ، صفةٌ لها على الكلام الأوَل . (9)
* * *
قال أبو جعفر:وأولى الأقوال في ذلك بالصواب:أن يقال ذَكر المَثَل, فقال (مثل الجنة), والمراد الجنة, ثم وُصِفت الجنة بصفتها, وذلك أن مَثَلَها إنما هو صِفتَهُا وليست صفتها شيئًا غيرها . وإذْ كان ذلك كذلك, ثم ذكر "المثل ",فقيل:(مثل الجنة), ومثلها صفَتُها وصفة الجنّة, فكان وصفها كوصف "المَثَل ",وكان كأنَّ الكلام جرى بذكر الجنة, فقيل:الجنةُ تجري من تحتها الأنهار, كما قال الشاعر:(10)
أَرَى مَــرَّ السِّــنِينَ أَخَــذْنَ مِنِّـي
كَمَــا أَخَـذَ السِّـرَارُ مِـنَ الْهِـلالِ (11)
فذكر "المرّ"، ورَجَع في الخبر إلى "السنين ".
وقوله:(أكلها دائمٌ وظلها) ، يعني:ما يؤكل فيها، (12) يقول:هو دائم لأهلها, لا ينقطع عنهم, ولا يزول ولا يبيد, ولكنه ثابتٌ إلى غير نهاية(وظلها)، يقول:وظلها أيضًا دائم, لأنه لا شمس فيها. (13)
* * *
(تلك عقبى الذين اتقَوْا) ، يقول:هذه الجنة التي وصف جل ثناؤه، عاقبة الذين اتَّقَوا الله, فاجتنبوا مَعَاصيه وأدَّوْا فرائضه . (14)
وقوله:(وعُقْبَى الكافرين النار) ، يقول:وعاقبةُ الكافرين بالله النارُ .
-------------------------
الهوامش:
(1) في المطبوعة:"رافع"والذي في المخطوطة خالص الصواب . وانظر ما سيأتي ص:552 .
(2) العبارة مبهمة ، ويبدو لي أن صوابها بعد الآية:"صفة الجنة التي وعد المتقون ، صفة جنة تجري من تحتها الأنهار ، أو فيها أنهار".
(3) سلف البيت وتخريجه وشرحه 1:119 ، تعليق 1 / 14:417 ، تعليق:1 ، وعجزه:
* وَمَـنْ يَبْـكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ *
(4) سيأتي البيت بعد 25:9 ( بولاق ) ، وروايته هناك:"مُسْبِلٌ"، وكان في المطبوعة:"سيل"، تصحيف ، و"السبل"، بالتحريك ، المطر .
(5) سلف البيت:1:345 ، وهناك"رجل وثور"، ورجحت أنها"رجل"، لما جاء في الخبر قبله رقم:448 .
(6) ديوانه:77 ، وتخريجه:373 ، يزاد عليه ما هنا واللسان ( يدي ) . والبيت في سياق أبيات من القصيدة ، يصف فيها ثور الوحش ، والضمير في"أضل ، إليه . و"الصوار"، قطيع بقر الوحش ، أضل الثور قطيعة وبقي فردًا وحيدًا ، كئيبًا متحيرًا ."تضيفته"، نزلت به وطرقته ، والضمير في"تضيفته"لإحدى الليالي التي ذكرها في البيت قبله:
كَــأَخْنَسَ نَاشِــطٍ جَــادَتْ عَلَيْـهِ
ببُرْقَــةِ وَاحِــفٍ إحْــدَى اللَّيـالي
و"ليلة نطوف"، قاطرة تمطر حتى الصباح . وقال أبو عمرو:"تطوف":سحابة تسيل قليلا قليلا"، والأول عندي أجود هنا ، وفي اللسان ( يدي ):"نِطَافٌ"
(7) ديوانه:216 ، تخريجه:396 ، ويزاد عليه ما هنا ، وتمام البيت:
* وأجَـنَّ عَـوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلامُهَا *
"ألقت"، يعني الشمس ، ولم يجر لها ذكر قبل . و"الكافر"، الليل المظلم ، يستر ما يشتمل عليه .
(8) هذه مقالة أبي عبيدة مجاز القرآن 1:333 ، 334 .
(9) هو أيضًا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1:334 . وقوله:"للذين استجابوا"، هي الآية 18 من سورة الرعد ، وهذه الآية:35 منها ، فلذلك قال:"على الكلام الأول".
(10) هو جرير .
(11) سلف البيت 7:86 ، تعليق:1 / 15:567 وسيأتي 19:39 ( بولاق ) ، ويزاد في المراجع:اللسان ( خضع ) .
(12) انظر تفسير"الأكل"فيما سلف من هذا الجزء:343 ، تعليق:1 ، والمراجع هناك .
(13) سلف"الظل"غير مبين 8:489 .
(14) انظر تفسير"العاقبة"و"العقبى"فيما سلف 15:356 ، تعليق:2 ، والمراجع هناك .