القول في تأويل قوله تعالى:وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
يقول تعالى ذكره:استرّت وجوه الخلق، واستسلمت للحيّ القيوم الذي لا يموت، القيوم على خلقه بتدبيره إياهم، وتصريفهم لما شاءوا، وأصل العنو الذلّ، يقال منه:عنا وجهه لربه يعنو عنوا، يعني خضع له وذلّ، وكذلك قيل للأسير:عان لذلة الأسر، فأما قولهم:أخذت الشيء عنوة، فإنه يكون وإن كان معناه يئول إلى هذا أن يكون أخذه غلبة، ويكون أخذه عن تسليم وطاعة، كما قال الشاعر:
هَـلْ أنْـتَ مُطِيعـي أيُّهـا القلب عنوة
ولـم تلـح نفس لـم تلـم في اختيالها (3)
وقال آخر:
هَــلْ أخَذُوهـا عَنْـوَةً عَـنْ مَـوَدَّةٍ
وَلَكِــنْ بِحَــدِّ المَشْـرَفِي اسْـتَقالَهَا (4)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال:ثنا أبو صالح، قال:ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) يقول:ذلت.
حدثني محمد بن سعد، قال:ثني أبي، قال:ثني عمى، قال:ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) يعني بعنت:استسلموا لي.
حدثني محمد بن عمرو، قال:ثنا أبو عاصم، قال:ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال:ثنا الحسن، قال:ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ ) قال:خشعت.
حدثنا القاسم، قال:ثنا الحسين، قال:ثني حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا بشر، قال:ثنا يزيد قال:ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) أي ذلَّت الوجوه للحيّ القيوم.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال:أخبرنا عبد الرزاق، قال:أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال:ذلت الوجوه.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال:ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال:قال طلق:إذا سجد الرجل فقد عنا وجهه، أو قال:عنا.
حدثني أبو حُصَن عبد الله بن أحمد، قال:ثنا عبثر، قال:ثنا حصين، عن عمرو بن مرة عن طلق بن حبيب، في هذه الآية ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال:هو وضع الرجل رأسه ويديه وأطراف قدميه.
حدثني أبو السائب، قال:ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن عمرو بن مرّة، عن طلق بن حبيب في قوله ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال:وهو وضعك جبهتك وكفيك وركبتيك وأطراف قدميك في السجود.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال ثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن عمرو بن مرّة، عن طلق بن حبيب في قوله ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال:وضع الجبهة والأنف على الأرض.
حدثني يعقوب:قال:ثنا هشيم، قال:أخبرنا حصين، عن عمرو بن مرّه، عن طلق بن حبيب، في قوله ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال:هو السجود على الجبهة والراحة والركبتين والقدمين.
حدثني يونس، قال:أخبرنا ابن وهب، قال:قال ابن زيد، في قوله ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) قال:أستأسرت الوجوه للحيّ القيوم، صاروا أسارى كلهم له، قال:والعاني:الأسير، وقد بيَّنا معنى الحيّ القيوم فيما مضى، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقوله ( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) يقول تعالى ذكره:ولم يظفر بحاجته وطلبته من حمل إلى موقف القيادة شركا بالله، وكفرا به، وعملا بمعصيته.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال:أخبرنا عبد الرزاق، قال:أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) قال:من حمل شركا.
حدثني يونس، قال:أخبرنا ابن وهب، قال:قال ابن زيد، في قوله ( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) قال:من حمل شركا. الظلم هاهنا:الشرك.
---------------
الهوامش:
(3) لم أقف على قائل البيت . وعنوة:قال في اللسان ( عنو ) في حديث الفتح أنه دخل مكة عنوة:أي قهرا وغلبة . قال ابن الأثير:هو من عنا يعنو:إذا ذل وخضع . والعنوة:المرة منه ، كأن المأخوذ بها يخضع ويذل . وأخذت البلاد عنوة:بالقهر والإذلال . ابن الأعرابي:عنا يعنو:إذا أخذ الشيء قهرا . وعنا يعنو عنوة:إذا أخذ الشيء صلحا ، بإكرام ورفق . والعنوة أيضا المودة قال الأزهري:أخذت الشيء عنوة:يعني غلبة ، ويكون عن تسليم وطاعة مما يؤخذ منه الشيء . وأنشد الفراء لكثير:
فَمَــا أخَذُوهـا عَنْـوَةً عَـنْ مَـوَدَّةٍ
وَلَكِـنَّ ضَـرْبَ المَشْـرَفِيّ اسْـتَقَالَهَا
فهذا على معنى التسليم والطاعة بلا قتال . وقال الأخفش في قوله تعالى:"وعنت الوجوه ":استأسرت . قال:والعاني:الأسير . وقال أبو الهيثم:العاني الخاضع .
(4) البيت لكثير عزة ، كما في ( اللسان:عنا ) وقد تقدم القول في معناه في الشاهد السابق عليه . المشرفي:السيف منسوب إلى قرية يقال لها مشارف بالشام أو اليمن . واستقلالها:أخذها وانتزاعها .