فقوله- سبحانه- وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ... حكاية لما طلبه الملك في ذلك الوقت من معاونيه في شأن يوسف- عليه السلام-، وفي الكلام حذف يفهم من المقام، والتقدير:
وقال الملك بعد أن سمع من ساقيه ما قاله يوسف في تفسير الرؤيا أحضروا لي يوسف هذا لأراه وأسمع منه، وأستفيد من علمه.
وهذا يدل- كما يقول الإمام الرازي- على فضيلة العلم، فإنه- سبحانه- جعل ما علمه ليوسف سببا لخلاصه من المحنة الدنيوية، فكيف لا يكون العلم سببا للخلاص من المحن الأخروية؟ .
وقوله- سبحانه- فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ بيان لما قاله يوسف- عليه السلام- لرسول الملك ...
أى:فلما جاء رسول الملك إلى يوسف ليخبره بأن الملك يريد لقاءه، قال له يوسف بأناة وإباء:ارجع إلى ربك، أى إلى سيدك الملك «فاسأله» قبل خروجي من السجن وذهابي إليه «ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن» أى:ما حالهن، وما حقيقة أمرهن معى، لأن الكشف عن حقيقة أمرهن معى يهمني أن يكون واضحا في الأذهان والعقول، حتى يعرف الجميع أننى برئ، وأننى نقى العرض طاهر الذيل.
والمراد بالسؤال في قوله «ارجع إلى ربك فاسأله» الحث والتحريض على معرفة حقيقة أمر النسوة اللائي قطعن أيديهن ...
ولم يكشف له يوسف عن حقيقة أمرهن معه لزيادة تهييجه على البحث والتقصي إذ من شأن الإنسان- خصوصا إذا كان- حاكما- أن يأنف من أن يسأل عن شيء مهم، ثم لا يهتم بالإجابة عنه.
وقد آثر يوسف- عليه السلام- أن يكون هذا السؤال وهو في السجن لتظهر الحقيقة خالصة ناصعة، دون تدخل منه في شأنها.
وجعل السؤال عن النسوة اللائي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز، وفاء لحق زوجها، واحترازا من مكرها، ولأنهن كن شواهد على إقرارها بأنها قد راودته عن نفسه، فقد قالت أمامهن بكل تبجح وتكشف فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» .
واكتفى بالسؤال عن تقطيع أيديهن، دون التعرض لكيدهن له، سترا لهن، وتنزها منه- عليه السلام- عن ذكرهن بما يسوؤهن.
ولذا فقد اكتفى بالإشارة الإجمالية إلى كيدهن، وفوض أمرهن إلى الله- تعالى- فقال:
إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ.
أى إن ربي وحده هو العليم بمكرهن بي، وكيدهن لي، وهو- سبحانه- هو الذي يتولى حسابهن على ذلك.
ولا شك في أن امتناع يوسف- عليه السلام- عن الذهاب إلى الملك إلا بعد التحقيق في قضيته، يدل دلالة واضحة على صبره، وسمو نفسه، وعلو همته ...
ولقد أجاد صاحب الكشاف في تعليله لامتناع يوسف عن الخروج من السجن للقاء الملك إلا بعد أن تثبت براءته فقال:«إنما تأنى وتثبت يوسف في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة، ليظهر براءة ساحته عما قذف به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده. ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا:ما خلد في السجن إلا لأمر عظيم، وجرم كبير، حق به أن يسجن ويعذب، ويستكف شره.
وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفى التهم، واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها» .
وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية بعض الأحاديث في فضل يوسف- عليه السلام- فقال ما ملخصه:
وقد وردت السنة بمدحه على ذلك- أى على امتناعه من الخروج من السجن حتى يتحقق الملك ورعيته من براءة ساحته ونزاهة عرضه- ففي الصحيحين عن أبى هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال:رب أرنى كيف تحيى الموتى؟ قال:أو لم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، ويرحم الله لوطا، لقد كان يأوى إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» .
وروى الإمام أحمد عن أبى هريرة في قوله- تعالى- فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لو كنت أنا لأسرعت الإجابة، وما ابتغيت العذر» .
وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجونى.
ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له، حين أتاه الرسول، ولو كنت مكانه لبادرتهم إلى الباب، ولكنه أراد أن يكون له العذر».