ثم بين - سبحانه - موقفه منهم فقال:( الله يَسْتَهْزِىءُ ) .
حمل بعض العلماء استهزاء الله بهم على الحقيقة وإن لم يكن من أسمائه المستهزئ ، لأن معناه يحتقرهم على وجه شأنه أن يتعجب منه ، وهذا المعنى غير مستحيل على الله ، فيصح إسناده إليه - تعالى - على وجه الحقيقة .
ويرى جمهور العلماء أن الاستهزاء لا ينفك عن التلبيس كأن يظهر المستهزئ استحسان الشيء وهو في الواقع غير حسن ، أو يقر المستهزأ به على أمر غير صواب ، وهذا المعنى لا يليق بجلال الله ، فيجب حمل الاستهزاء المسند إليه تعالى على معنى يليق بجلاله ، فيحمل على ما يلزم على الاستهزاء من الانتقام والعقوبة والجزاء المقابل لاستهزائهم ، وسمى ذلك استهزاء على سبيل المشاكلة كما في قوله تعالى:
( وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) وهذا دليل على غيرة الله على عباده المؤمنين ، وانتقامه من كل من يستهزئ بهم أو يؤذيهم .
وعبر بالمضارع في قوله ( يَسْتَهْزِىءُ ) للإِيذان بأن احتقاره لهم ، أو مجازاتهم على استهزائهم يتجدد ويقع المرة بعد الأخرى:
ثم بين - سبحانه - لونا آخر من ألوان غضبه عليهم فقال:( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .
المد:الإمهال والمطاولة والزيادة ، من المد بمعنى الإِمهال ، يقال:مده في غيه - من باب رد - أمهله وطول له ، ويقال:مد الجيش وأمده إذا ألحق به ما يقويه ويكثره ويزيده ، وقيل:أكثر ما يستعمل المد في المكروه ، والإِمداد في المحبوب ، والطغيان:مجاوزة الحد ، ومنه طغا الماء ، أي:ارتفع .
ويعمهون:يعمون عن الرشد ، أو يتحيرون ويترددون بين الإِظهار والإِخفاء ، أو بين البقاء على الكفر وتركه إلى الإِيمان . يقال:عمه - كفرح ومنع - عمها ، إذا تردد وتحير ، فهو عمه وعامه ، وهم عمهون وعمه كركع والمعنى:أن الله تعالى يجازي هؤلاء المنافقين على استهزائهم وخداعهم ، ويمكنهم من المعاصي أو يملري لهم ليزدادوا إثماً . حال كونهم يعمون عن الرشد ، فلا يبصرون الحق حقاً ولا الباطل باطلا .