ولكن الله تعالى بين أنهم إن يسخروا من المؤمنين فالله تعالى يسخر منهم لخفة عقولهم ، وسفه أحلامهم ؛ ولذا قال تعالى:{ الله يستهزئ بهم} والمعنى أن الله تعالى ينتصف للمؤمنين فيستهزئ منهم ، ويسخر بهم ، وينتقم من قولهم يوم القيامة ، وليس المراد معنى الاستهزاء ، وهو الاستخفاف ، فإن ذلك لا يليق بذات الله تعالى ، وإنما المراد إنزال الهوان وأن يكونوا موضع السخرية التي يجلبونها لأنفسهم بأفعالهم ، فهم موضع تهكم من أهل الحق دائما ، فهم جديرون بأن يسخر منهم ومن أفعالهم الساخرون ، إذ هم يتملقون الكافرين من المشركين ، وهم معهم ، ويدهنون بالقول مع المؤمنين ، ولا يخفى على أحد حال من أحوالهم ، فهم أرادوا ستر كفرهم فكشف ، وأراد إظهار إيمانهم .
وإن الله تعالى يذكر أفعال المشركين ، ويوردها بمثل ألفاظها ، وإن كانت دلالة الألفاظ عدلا وحقا لغير ما يريد الكافرون . مثل قوله:{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم . . .( 194 )} [ البقرة] ، فسمى الفعل اعتداء مجاراة لأفعالهم ، وليس إلا دفعا وقصاصا ، وكذلك قوله تعالى:{ وجزاء سيئة سيئة مثلها . . .( 40 )} [ الشورى] ، وقوله تعالى:{ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( 54 )} [ آل عمران] ، وقوله تعالى:{ إنهم يكيدون كيدا ( 15 ) وأكيد كيدا ( 16 )} [ الطارق] ، وقوله تعالى:{ فيسخرون منهم سخر الله منهم . . . ( 79 )} [ التوبة] وهكذا . وهنا يسأل سائل:لماذا ذكر الله حالهم بقوله:{ إنما نحن مستهزئون} باسم الفاعل الدال على الدوام ، ورد الله تعالى أمرهم بقوله تعالى:{ الله يستهزئ بهم} بفعل المضارع ؟ والجواب عن ذلك أن المضارع يدل على الدوام مع تجدد الفعل آنا بعد آن ، فالاستهزاء متجدد مستمر ، لا يبقى على حال ، بل يتجدد وقتا بعد وقت ، فهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ، وأفعالهم تجدد الاستهزاء ، والآيات تنزل بفساد أحوالهم وسقم نفوسهم ، والمؤمنون يحذرون ، وكلما ابتغوا الفتنة ردت إليهم وتكاثر شرهم ، والبراءة منهم ، حتى أن أهل كل بيت فيه منافق استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتله ، حتى كانوا موضع السخرية وأحسوا بها في ذات أنفسهم ، حتى برموا من أعمالهم ، وإن كانوا قد استمروا في غيهم .
ولكن لم ينزل بهم عقاب في الدنيا ، وذلك لحكمة أرادها ، ولمصلحة تغياها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي ألا يقتلهم حتى لا يقال بين الأعراب وغيرهم إن محمدا يقتل أصحابه{[56]} .
{ ويمدهم في طغيانهم يعمهون} المد هو زيادة المدة في حياتهم بأن يمهلهم الله ثم يأخذهم أخذ عزيز ، كما قال تعالى:{ نملي لهم ليزدادوا إثما . . . ( 178 )} [ آل عمران] والطغيان:الكفر والضلال ، وأصله تجاوز الحد ، والطغيان هنا الكفر مع الإسراف فيه ، والنفاق بلا ريب إسراف في الكفر .
والزمخشري يفسر "مد"لا بمعنى زيادة المد ، بل بمعنى زاده ، وألحق به ما يقويه ويكثره مثل قوله تعالى:{ ونمد لهم من العذاب مدا ( 79 )} [ مريم] ، ولقد قرئ:( ويمدهم ) بضم الياء ، وهي من المدد لا محالة .
وقول الزمخشري:في ذلك حجة ونرجحه على غيره .
والمعنى في ذلك ، أنهم مغرورون مخدوعون ، يعطيهم الله سبحانه من مدد الغرور في طغيانهم ، وبيان الحق وتركه ما يزيدهم في حيرتهم واضطرابهم واستمرارهم في أسباب السخرية منهم ؛ ولذلك قال إنهم بهذا المدد{ يعمهون} ، والعمه مثل العمى ، إلا أن العمى يكون في البصر والرأي ، أما العمه فإنه يكون في الرأي بمعنى الحيرة ، فمعنى يعمهون يتحيرون ، فهم في حيرة دائمة مستمرة . . زاد الله المنافقين في كل العصور عمى ، وزادهم عمها . .!