المنافقون الذين جاوروا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ، سواء أكانوا من المشركين أم كانوا من اليهود ، وقد كانت عدوى الأخلاق بينهم . . أولئك المنافقون كانوا يحضرون مجالس النبي صلى الله عليه وسلم ، ونور الحق يشيع بينهم ، فيرون مطالعه ، ويدركون مشارفه ، فأسباب الهداية بين أيديهم يرونها عيانا ، ويسمعونها بيانا ، والفطرة تحثهم وترشدهم ، والحق لا يخفى منه خافية ، فعندهم العلم أو أسبابه ولكنهم مع ذلك يتركون النور الهادي إلى الظلام الدامس ، يتركون الحق الأبلج ، وهو بين أيديهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، يتركون ذلك إلى الضلالة ، فهم قد استحبوا العمى على الهدى ؛ ولذلك قال الله تبارك وتعالى:{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} الإشارة هنا إلى المنافقين الذين ذكرت أوصافهم ، والإشارة إلى المعرف بالوصف هي إشارة إلى الأوصاف ، وقد حملوها ، وبذلك تكون الأوصاف هي علة الحكم ، وسببه ، إنهم بإخفائهم الكفر ، وإعلانهم الإيمان ، وإفسادهم في الأرض ، وهم يزعمون إصلاحها ، وما فيهم من مرض النفاق الذي يعمي ويصم ، وظنهم أنهم أهل الكمال ، وأن غيرهم أهل السفه والخسران ،
إنهم بهذه الأوصاف التي اختاروها ، والأحوال التي كانوا عليها مع رؤيتهم النور والهدى ، وتركهم إياه كمن يشتري الضلالة بثمن هو أعلى من الأثمان ، وهو الهدى يدفعونه في سبيل أن ينالوا أقبح ما في الوجود وهو الضلال ، وهل يستوي الهدى والضلال في سوق الخير والفضيلة ، إنهما لا يستويان . شبه الله تعالى أولئك المنافقين بحال التاجر الذي يطلب الكاسد يقدم في سبيله الرابح ، وهنا يصح أن يكون تخريج الكلام بتشبيه إفرادي ، أو استعارة تمثيلية ، فيكون المعنى تشبيه حال رجل في يده هدى ونور وخير وفضل ، يتركه ليستبدل به شيئا لا خير فيه ، وفيه فساد وضرر ، بحال تاجر يترك البضاعة الرابحة المثمرة إلى بضاعة كاسدة لا ثمر فيها .
وقد رشح الله في بيان كتابه بأن ذكر ما يقوي الاستعارة بذكر أوصاف للمشبه ، فقال:{ فما ربحت تجارتهم} أي أنهم في هذه المبادلة المعنوية خاسرون ، وليسوا كاسبين لأنهم خسروا الخير وأخذوا الشر ، وأي كسب فيها ؟ ! ونسب الربح إلى التجارة ، وهي محل التصرف ، وذلك تعبير بليغ كقولك:نهار صائم وليل قائم ، وذلك من قبل المبالغة في الصلاة ، وإنما قوله:{ فما ربحت تجارتهم} مبالغة في نفي الربح وثبوت الخسارة ، لمن ترك الهداية وأخذ الضلالة .
وقد أكد سبحانه ضلالهم ، ونفى الهداية عنهم كنتيجة لهذه المبادلة الخاسرة فقال:{ وما كانوا مهتدين} لأن نفوسهم أركست ذلك الإركاس ، وفسدت ذلك الفساد ، ما كان من شأنهم أن يهتدوا أبدا ، فنفى عنهم الاهتداء نفيا مؤكدا بالجملة الاسمية ، وبكلمة كانوا الدالة على الدوام والاستمرار ، فليس من شأن من كانت هذه الحال حاله أن يهتدي أبدا ، لأن الشر قد استمكن من نفسه وأظلمت واربادت بالضلالة حتى إنه لا منفذ لنور يدخلها أبدا .