{ أولئك الذين اشتروا الضالة بالهدى} المشار إليه بأولئك هم الذين بينت حالهم الآيات السابقة بأنهم يقولون:آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين الخ وهو صريح في أن طغيانهم وعمههم من كسبهم ، ولم يجبروا عليه بخلق ربهم .قال الأستاذ:وقد فسروا"اشتروا "باستبدلوا وهو غير سديد لأن بين اللفظين فصلا في المعنى ، وكلنا نعتقد – والحق ما نعتقد – أن القرآن في أعلى درجة البلاغة لا يختار لفظا على لفظ من شأنه أن يقوم مقامه ، ولا يرجح أسلوبا على أسلوب يمكن تأدية المراد به ، إلا لحكمة في ذلك وخصوصية لا توجد في غير ما اختاره ورجحه .ووجه إختياره"اشتروا "على استبدلوا أن الأول أخص من وجهين:
أحدهما:أن الاستبدال لا يكون شراء إلا إذا كان فيه فائدة يقصدها المستبدل منه ، سواء كانت الفائدة حقيقية أو وهمية .
ثانيهما:أن الشراء يكون بين متبايعين بخلاف الاستبدال ، فإذا أخذت ثوبا من ثيابك بدل آخر ، يقال إنك استبدلت ثوبا بثوب ، فالمعنى الذي تؤديه الآية:أن أولئك القوم اختاروا الضلالة على الهدى لفائدة لهم بإزائها يعتقدون الحصول عليها من الناس ، فهو معاوضة بين طرفين يقصد بها الربح ، وهذا هو معنى الاشتراء والشراء ، ومثلهما البيع والابتياع ، لا يؤديه مطلق الاستبدال ذلك بأنه كان عندهم كتب سماوية فيها مواعظ وأحكام ، وفيها بشارة بأن الله يرسل إليهم نبيا يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ، ويضع عنهم إصر التقاليد وأغلال التقيد بإرادة العبيد ، ويرعى جميع الأمم بقضيب من حديد ، فيرجع للعقول نعمة الاستقلال ، ويجعل إرادة الأفراد هي المصرفة للأعمال فكان عندهم بذلك حظ من هداية العقل والمشاعر وهداية الدين والكتاب ، ولكن نجمت فيهم الأحداث والبدع ، وتحكمت فيهم العادات والتقاليد ، وعلا سلطان ذلك كله على سلطان الدين ، فضل الرؤساء في فهمه ، بتحكيم تقاليدهم في أحكامه وعقائده ، بضروب من التحريف والتأويل .وأهمل المرءوسون العقل والنظر في الكتاب بحظر الرؤساء وأثرتهم ، فكان الجميع على ضلالة في استعمال العقل وفي فهم الكتاب ، بعد أن كانا هدايتين ممنوحتين لهم لإسعادهم ، وكانت المعاوضة عند الفريقين في ذلك بالمنافع الدنيوية:للرؤساء المال والجاه والتعظيم والتكريم باسم الدين ، والمرؤوسين الاستعانة بجاه رؤساء الدين على مصالحهم ومنافعهم ، ورفع أثقال التكاليف ، بفتاوى التأويل والتحريف .هكذا استحبوا العمي على الهدى – وهو العقل والدين – رغبة في الحطام ، وطمعا في الجاه الكاذب{ فما ربحت تجارتهم} في الدنيا ، إذ لم تثمر لهم ثمرة حقيقية ، بل خسروا وخابوا إهمالهم النظر الصحيح الذي لا تقوم المصالح ولا تحفظ المنافع إلا به .وإسناد الربح إلى التجارة عربي في غاية الفصاحة لأن الربح هو النماء في التجر ، وهذه المعاوضة هي التي من شأنها أن تثمر الربح ، فإسناده إليها نفيا أو إثباتا إسناد صحيح لا يحتاج إلى التأويل [ كأنه قيل فلم يكن نماء في تجارتهم .على أن ذلك التأويل المعروف من أن إسناد الربح إلى التجارة لأنها سببه والوسيلة إليه وأن العبارة من المجاز العقلي – تأويل يتفق مع البلاغة ولا ينافيها ، ولا زال المجاز العقلي من أفضل ما يزين البلغاء به كلامهم .ويبلغون به ما يشاءون من تفخيم معانيهم] .
{ وما كانوا مهتدين} في دينهم لأنهم لم يأخذوه على وجهه ولم يفهموه حق فهمه أو ما كانوا مهتدين في هذه التجارة لأنهم باعوا فيها ما وهبهم الله من الهدى والنور بظلمات التقاليد وضلالات الأهواء والبدع التي زجوا أنفسهم فيها – أو ما كانوا مهتدين في طور من الأطوار ولا مس الرشد قلوبهم في وقت من الأوقات لأنهم نشؤوا على التقليد الأعمى من أول وهلة ولم يستعملوا عقولهم قط في فهم أسراره ، واقتباس أنواره .ولا يذهبن الوهم إلى أن اشتراء الضلالة بالهدى يفيد أنهم كانوا مهتدين ثم تركوا الهدى للضلالة ، فيتناقض أول الآية مع آخرها ، إذ ليس لكل من منح الهدى يأخذ به فيكون مهتديا ، وهؤلاء حمّلوه ، فباعوه ولم يحملوه ، وينظر إلى هذا الاشتراء ، ويشبه الاستحباب في قوله تعالى{ 41:17 وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمي على الهدى} والله أعلم .
ومن مباحث الأداء قراءة حمزة والكسائي ( الهدى ) بالإمالة أي جعل مدها بين الألف والياء ، وهي لغة بني تميم ، وعدم الإمالة لغة قريش وهي الفصحى ، ولما كان يعسر على لسان من اعتادها تركها أذن الله تعالى بها فيما أقرأ جبريل النبي صلى الله عليه وسلم .