ربما كانت هذه الآيات إيحاءً ختامياً بطبيعة عملهم ،بعد أن كانت الآيات السابقة تعداداً لملامحهم ،وذلك كإشارة إيحائية للإنسان بالابتعاد عنهم ،وعن خطّهم العملي في الحياة ،على أساس النتائج السيئة الناتجة عنه .
] أُوْلَئِكَ[ المنافقون] الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى[،وذلك من خلال اختيارهم الضلال ،الذي أصرّوا عليه وساروا فيه ،على الهدى الذي قدّمه لهم الرسول ،ووعاه العقل من خلال الحقّ الكامن فيه والخير المنفتح عليه .
إنهم «اشتروا الضلالة » في سلوكهم وخططهم النفاقية ،فتاهوا في منعطفات الطرق ،ومتاهات الرمال المتحركة التي تضيع عندها الخطوط وتتلاشى فيها العلامات ،وتركوا الهدى الذي يحدّد للإنسان بداية الطريق التي تشير إلى نهايته في خطّ مستقيم ثابت لا التواء فيه ولا انحراف .
] فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ[ مما يوحي به هذا النوع من المواقف القائم على أسلوب التبادل التجاري وما يستهدف من تحقيق الربح المادي ،في الوقت الذي تنطلق فيه النتائج الحاسمة على خلاف ذلك خسراناً وسقوطاً وضياعاً ،] وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ[ في اختيارهم العملي ،لأنهم واجهوا متاهات الأوضاع القلقة على مستوى المصير .
مفهوم الشّراء كمقوّم لكلّ عمل إنساني:
ونلاحظفي هذا المجالأنَّ القرآن الكريم يركز في هذه الآية وفي غيرها من الآيات ،على كلمة «الشراء » في كلّ عمل يقوم به الإنسان في حياته ،على أساس النتائج السيئة والحسنة التي تنتج عنه ،ما يجعل من مجموعة الأعمال الإنسانية في الحياة عملاً تجارياً يخضع للربح وللخسارة في طبيعته العامة والخاصة ،فهناك عوض ومعوَّض في كلّ حركة يتحرّكها ،وفي كلّ كلمة يتكلّمها ،فقد تشتري ببعض الأعمال نفسك ومصيرك وحياتك عندما يكون للعمل نتائج إيجابية على قضية الحياة والمصير ،سواء في ذلك على المستوى المادي أو المستوى المعنوي ،حتى في مجال التضحية بالنفس أو بالمال مما يدخل في عملية العطاء بلا مقابل ،فإنَّ القضية لا تخلو من العوض ،ولكنَّه العوض الأخروي للمؤمنين ،والعوض النفسي بشكل عام .
ونواجه في هذا الجوّ بعض الآيات الكريمة كمثال على ذلك ،كقوله تعالى:
] إِنَّ اللّه اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجنّة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّه فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّه فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ [ التوبة:111] ،وقوله تعالى:] وَمِنَ النّاس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللّه وَاللّه رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[ [ البقرة:207] ،وقوله تعالى:] يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بِأَمْوَلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[ [ الصف:1011] .
وهكذا تكون الحياة في كلّ مجالاتها وصراعاتها ،عملية بيع وشراء مع اللّه أو مع الشيطان ،فلا تعطي شيئاً ،إلاَّ لتأخذ شيئاً مقابلاً له ،وهي في ذلك ،قد تربح إذا كانت النتائج جيدة في مصلحة البائع والمشتري ،وقد تخسر إذا لم تكن النتائج في مصلحتهما ،وعلى ضوء ذلك ،نعرف طبيعة تجارة هؤلاء المنافقين ،فهم قد أخذوا الشيء أو الموقف الذي يخسرون به مصيرهم في الدنيا والآخرة ،والذي يضعهم في تيهٍ لا نهاية له من الحَيْرة والتمزّق ،وتركوا في مقابل ذلك الهدى الذي يعطيهم القوّة والفلاح والسلام الروحي في الدنيا والآخرة ،وبذلك كانت تجارتهم غير رابحة من خلال ما كانوا يأملونه من الأرباح ،في الوقت الذي خسروا فيه هدى الطريق ،ما جعلهم في ضياع دائم وتخبّط مستمر ،وظلام داخلي يحجب عنهم رؤية النور الذي يتفجر من أعماق القلوب المؤمنة السابحة أبداً في ينابيع الضياء الروحي المنهمر من رَوْحِ اللّه .
ما ينبغي للدعاة استيحاؤه:
من هنا ،ينبغي للدعاة إلى اللّه أن يتوفروا على استيحاء هذا الأسلوب القرآني في مجال عملهم الدعوتي إلى اللّه ،فقد يلتقون بالأشخاص الذين يعيشون قضايا الحياة من خلال حسابات الربح والخسارة ،فيحتاجون إلى إثارة هذه القضايا في حياتهم في انسجامهم مع خطّ اللّه أو ابتعادهم عنه ،ودراسة سلبيات الضلال وإيجابية الهدى في الحياة العملية في الدنيا ،ثُمَّ الاتجاه بهم إلى قضية الدار الآخرة ،كمجال حيوي من المجالات التي تتحرّك فيها حسابات الربح والخسارة ،والتركيز على اعتبارها النقطة الحاسمة في ذلك ،كما حدّثنا اللّه عن ذلك في بعض آياته الكريمة ،عند الحديث عن جانب الخسارة:
1] قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ[ [ الزمر:15] .
2] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّه فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللّه الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[ [ الأنفال:3637] .
وقد حدّثنا اللّه عن الفوز في الآخرة كمقياس للفوز في قوله تعالى:
] كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجنّة فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ[ [ آل عمران:185] .
] وَعَدَ اللّه الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِّنَ اللّه أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[ [ التوبة:72] .
ولا بُدَّ للداعية من أن يتوفر على إيجاد الأجواء النفسية التي تهيىء للالتقاء بالفكرة القرآنية التي تريد للإنسان أن يعيش الشعور بالربح والخسارة في الآخرة بالقوّة نفسها التي يستشعر فيها القضية في الدنيا إن لم يكن بنحو أقوى وأشدّ .وربما كان هذا الأسلوب من أكثر الأساليب ارتباطاً بالهدف القرآني الذي يعمل له العاملون ،وهو أن يعيش النّاس أجواء الدار الآخرة في جميع مجالات الحياة الدنيا ،ليكون السلوك العملي للإنسان خاضعاً للتأثيرات الروحية التي يعيشها من خلال فيوضات العيش في رحاب اللّه تعالى .
حالة المنافقين في مثلين:
ثُمَّ انتقلت السورة إلى تجسيد صورة المنافقين ،وما يعانونه من حَيْرة وتمزّق وخيبة آمال ،من خلال عرض الصورة الحسية المماثلة لصورتهم الداخلية ،ولكن في إطار حركة الطبيعة ضمن نماذجها الواقعية المتحركة في الحياة ،وذلك بأسلوب ضرب المثل ،وهو من الأساليب البلاغية الرائعة التي استخدمها القرآن ،في أكثر من مجال ،من أجل إعطاء فكرة واضحة حية عن القضايا المعنوية بمقارنتها بالأشياء الحسية ،التي تتجسّد فيها الصورة في هزَّة حركية مثيرة للنظر والوجدان والشعور ،تماماً كوسائل الإيضاح التي تحاول تعميق الفكرة في النفس وتقريبها إلى الوجدان عبر إبراز عناصرها بالوسائل الحسية ،لأنَّ تأثير الحسّ في النفس أشدّ عمقاً وأكثر تأثيراً من الجوانب المعنوية ،ولذا كانت هي الطريقة المفصلة لتربية الأطفال الذين لا يستطيعون إدراك الجوانب المعنوية ،إلاَّ بأسلوب التجسيد الحسي الذي يربط الطفل بمرئياته وملموساته .وقد تكون قيمتها في تقريب الفكرة التي يوحيها المثل إلى ذهن الإنسان وروحه ،ما يجعل مقارنتها بالفكرة التي يُراد عرضها للفكر أمراً عملياً مثيراً .
ولعلّ السرّ في محاولة القرآن الكريم إبراز ملامحهم الداخلية من خلال الصورة الحسية المتمثّلة في واقع الطبيعة الملموس ،هو أنَّ اللّه يريد إبعاد النّاس عن هذا الاتجاه المنحرف في موقف الإنسان من قضايا الحقّ والباطل ،الأمر الذي يفرض على الأسلوب أن يلتمس كلّ العناصر المنفِّرة التي تشارك في حشد الصورة بأكبر قدر ممكن من الأجواء المظلمة القاسية المُغرقة في الضياع .