وقد صوّر اللّه لنا حالة المنافقين في مثلين محسوسين من صورة الطبيعة:
المثل الأول في قوله تعالى:] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ[.
فالمنافقون] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً[ ليستعين بضوئها على معرفة الأوضاع المحيطة به ،والطريق الذي يسير فيه ،والغاية التي يسعى إليها .] فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ[،ورأى من خلالها ما يريد رؤيته ،وحصل منها على ما يستفيده من الدفء والحرارة ،واستراح لذلك ،واطمأنّ به ،وفكّر في قضاء ليلةٍ سعيدة مشرقة ،جاءته الريح العاصفة فأطفأت ناره و] ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ[،فانطلقوا يتخبطون على غير هدى ،] وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ[ ما حولهم ،ومن حولهم ،ولا يهتدون طريقهم .
] صُمٌّ[ لم يركّزوا أسماعهم لاستماع الحقّ ،فكأنهم لا يسمعون ،لأنَّ وجود السمع كعدمه بالنسبة إليهم ،من حيث النتيجة .] بُكْمٌ[ لم يقرّوا باللّه ورسوله ورسالاته ،فكأنهم لا ينطقون ،لأنهم لم يستفيدوا من لسانهم في ما يُراد له من النطق بالحقّ .] عُمْىٌ[ لم ينظروا في ملكوت اللّه في السَّماوات والأرض ،ليعرفوا سرّ عظمة اللّه من خلال ذلك ،فكأنهم لا يبصرون لانعدام الفائدة المطلوبة من وجود البصر .] فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ[ إلى الحقّ لينطلقوا منه نحو سعادة الدنيا والآخرة ،بل يبقون في متاهات الضلال التي تقودهم إلى الضياع .
فهم تماماً كما لو كنّا في صحراء مظلمة ليس فيها بصيص نور ،لا قمر تشع أنواره الشفافة الوديعة في الأجواء الممتدة التي تنسكب على الرمال بوداعة وهدوء ،ولا كواكب تلمع من بعيد ،فتوشي حواشي الظلام بلمعات من النور الأبيض القادم من بعيد في خجل واستحياء ،فتفتح أمام الخطى بعض مسالك الطريق .ليس هناك إلاَّ ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض ،ثُمَّ استطعنا فجأة أن نوقد بعض النّار ،وتصاعد اللّهب الذي يكشف لنا الجوّ والموقع والطريق ..ثُمَّ جاءت ريح فأطفأت هذه النّار ،أو حاولت أن تعبث بها فأطفأتها في حركة عاصفة شديدة .فلنتصوّر الحالة النفسية التي سنكون عليها ،والتي تتجسّد فيها خيبة الأمل واليأس من الوصول إلى الهدف المنشود ،فهل ثمة حالة أقسى من مثل هذه الحالة التي ينفتح لنا فيها النور بعد يأس ،ثُمَّ يذهب فجأة وينطفىء بدون انتظار في أشدّ حالات الحاجة إليه ؟
إنها ،تماماً ،حالة المنافق الذي كان يعيش في ظلام دامس من الشك والحَيْرة والتمزّق والضياع ،ككلّ النّاس الذين يعيشون الكفر والجحود والنكران ،فيأتي النور الذي أرسله اللّه على رسوله ليدلهم على الطريق وليحدّد لهم الهدف ،ولينقذهم من الحَيْرة والتمزّق والضياع ،فيقودهم إلى حيث الطمأنينة والوضوح في الرؤية والاستقامة في التفكير ،وكان بإمكانهم أن يلتقوا به على درب الإيمان ليخرجهم من الظلمات إلى النور ،ولكن العقدة المتأصلة التي تحوّلت إلى عقدة مرضية مستعصية حالت بينهم وبين الالتقاء بالنور والانطلاق مع الهدى ،فعاشوا مع هذه العقدة التي زيّنت لهم أساليب التلاعب الشيطانية ،وأوحت إليهم أنَّ ذلك هو السبيل الذي يستطيعون من خلاله أن يحرزوا النتائج المضمونة من كلا الفريقين: فريق الكفر ،وفريق الإيمان ،بأسلوب اللف والدوران ،فعادوا إلى الظلمة من جديد ،بعد أن] ذَهَبَ اللّه بِنُورِهِمْ[ بفعل إرادتهم المجنونة التي لا تعرف ما تريد وكيف تريد ،الأمر الذي جعل اختيارهم يتحرّك في مصلحة الظلام لا في مصلحة النور ،فخذلهم اللّه وأوكلهم إلى أنفسهم] وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ[.
وجاءت الآية الثانية لتعطينا الفكرة الواضحة عن الأسباب التي دفعتهم إلى هذا الاتجاه المنحرف ،ولتعرّفنا أنهم لم يستخدموا الوسائل التي خلقها اللّه لهم ليحصلوا على المعرفة الشاملة ،بل حاولوا أن يجمّدوها ،فقد خلق اللّه لهم السمع ليصغوا من خلاله إلى الكلمات الحقّة من الآيات البيّنات التي تثير في داخلهم التفكير والتأمل ،وخلق لهم اللسان ليسألوا به عن كلّ الأمور التي يجهلونها أو يشكّون فيها ليصلوا إلى المعرفة الحقّة ،وخلق لهم البصر ليتطلّعوا به إلى آياته الكونية التي أودع فيها كلّ الدلائل والأسرار التي تقودنا إلى الشعور بعظمته والإيمان بوحدانيته ،لقد خلق لهم كلّ هذه الوسائل ليستخدموها كأدوات للمعرفة ،ولكنَّهم أهملوها ،فكانوا أشبه بالذين يفقدون هذه القوى ،لأنَّ قيمة الحواس الإنسانية لا تكمن في وجودها الجامد ،بل في وجودها الحيّ المتحرّك في كلّ اتجاه يمنح المعرفة وينمّي الحسّ بالحياة ،ويضيء للقلب طريق التفكير ،وبذلك يفقد العاملون الأمل في رجوعهم إلى الحقّ والصواب ،لأنَّ شرطه الإحساس بالمعرفة من خلال الشعور بالحاجة إلى استخدام وسائلها الطبيعية .