[ يقال:مثل ومثل ومثيل - أيضا - والجمع أمثال ، قال الله تعالى:( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) [ العنكبوت:43] .
وتقدير هذا المثل:أن الله سبحانه ، شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى ، بمن استوقد نارا ، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله ، وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره ، وصار في ظلام شديد ، لا يبصر ولا يهتدي ، وهو مع ذلك أصم لا يسمع ، أبكم لا ينطق ، أعمى لو كان ضياء لما أبصر ؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضا عن الهدى ، واستحبابهم الغي على الرشد . وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا ، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع ، والله أعلم .
وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال:والتشبيه هاهنا في غاية الصحة ؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين .
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى:( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) [ البقرة:8] .
والصواب:أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم ، ولم يستحضر ابن جرير - رحمه الله - هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى:( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ) [ المنافقون:3] ؛ فلهذا وجه [ ابن جرير] هذا المثل بأنهم استضاءوا بما أظهروه من كلمة الإيمان ، أي في الدنيا ، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة .
قال:وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد ، كما قال:( رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ) [ الأحزاب:19] أي:كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى:( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) [ لقمان:28] وقال تعالى:( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) [ الجمعة:5] ، وقال بعضهم:تقدير الكلام:مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا . وقال بعضهم:المستوقد واحد لجماعة معه . وقال آخرون:الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
قلت:وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع ، في قوله تعالى:( فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون ) وهذا أفصح في الكلام ، وأبلغ في النظام ، وقوله تعالى:( ذهب الله بنورهم ) أي:ذهب عنهم ما ينفعهم ، وهو النور ، وأبقى لهم ما يضرهم ، وهو الإحراق والدخان ( وتركهم في ظلمات ) وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق ، ( لا يبصرون ) لا يهتدون إلى سبل خير ولا يعرفونها