{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون 17} .
ولما جاء بحقيقة صفتهم ،عقّبها بضرب المثلزيادة في الكشف ،وتتميما للبيانفقال تعالى:{ مثلهم} أي:مثالهم في نفاقهم ،وحالهم فيه{ كمثل الذي استوقد} أي أوقد{ نارا} في ظلمةوالتنكير للتعظيم{ فلما أضاءت} أي:أنارت النار /{ ما حوله} فأبصر ،واستدفأ ،وأمن مما يخافه{ ذهب الله بنورهم} أي:أطفأ نارهمالتي هي مدار نورهمفبقوا في ظلمة وخوفوجمع الضمير مراعاة لمعنى الذي كقوله:{ وخضتم كالذي خاضوا}{[493]} .{ وتركهم في ظلمات لا يبصرون} ما حولهممتحيّرين عن الطريق ،خائفينفكذلك هؤلاء استضاؤوا قليلا بالانتفاع بالكلمة المجراة على ألسنتهم ،حيث أَمِِنوا على أنفسهم وما يتبعها .ثم وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمةظلمة النفاقالتي ترمى بهم إلى ظلمة سخط الله ،وظلمة العقاب السرمد ؛ ومحصوله:أنهم انتفعوا بهذه الكلمة مدة حياتهم القليلة ،ثم قطعه الله تعالى بالموت .
ونُقِلَعن كثير من السلفتفسير آخر ،وهو:تمثيل إيمانهم أولا ،ثم كفرهم ثانيا .فيكون إذهاب النور في الدنيا ،كما قال تعالى:{ ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا}{[494]} الآية ،فلما آمنوا أضاء الإيمان في قلوبهمكما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراثم لما كفروا ،ذهب الله بنورهم:انتزعهكما ذهب بضوء هذه الناروعلى هذا فالتمثيل مرتبط بما قبله .فإنهملما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدىمثل هداهمالذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقدوالضلالةالتي اشتروها وطبع بها على قلوبهمبذهاب الله بنورهم ،وتركه إياهم في الظلمات .
قال الزمخشري في ( الكشاف ):ولضرب العرب الأمثال ،واستحضار العلماء المُثُل / والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيّات المعاني ،ورفع الأستار عن الحقائق ،حتى تريك المتخيّل في صورة المحقّق ،والمتوهّم في معرض المتيقّن ،والغائب كأنه مشاهدوفيه تبكيت للخصم الألدّ ،وقمع لسورة الجامع الأبيّ .
ولأمر ما ،أكثر اللهفي كتابه المبين ،وفي سائر كتبهأمثاله ،وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وكلام الأنبياء والحكماء .قال الله تعالى:{ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}{[495]} .
و ( المَثَل ) في أصل كلامهم بمعنى:المِثْل وهو النظير .يقال:مِثْل ،ومَثَل ،ومثيلكشِبه وشَبَه وشَبيهثم قيل للقول السائر الممثّل مضربه بمورده:مَثَل .ولم يضربوا مثلا ،ولا رأَوهْ أهلا للتسيير ولا جديرا بالتداول والقبول ،إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه .ومن ثم حوفظ عليه ،وحُمِيَ من التغيير .
فإنه{[496]}لو غُيِّرَلربما انتفى الدلالة على تلك الغرابة .وقيل:إن المحافظة على المثل إنما هي بسبب كونه استعارة .فوجب لذلك أن يكون هو بعينه لفظ المشبه به .فإن وقع تغيير ،لم يكن مثلا ،بل مأخوذا منه ،وإشارة إليهكما في قولك:بالصيف ضيعتَ اللبنَ{[497]} .بالتذكير .
/ وقال بعضهم:قد استعير المثل للحال ،أو القصة ،أو الصفةإذا كان لها شأن ،وفيها غرابةكأنه قيل:حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا .وكذلك قوله:{ مثل الجنة التي وعد المتقون}{[498]} أيفيما قصصنا عليك من العجائبقصة الجنة العجيبة الشأن ،ثم أخذ في بيان عجائبها{ ولله المثل الأعلى}{[499]} أي:الوصف الذي له من شأن من العظمة والجلالة .{ مثلهم في التوراة}{[500]} أي:صفتهم وشأنهم المتعجّب منه .
ولما في المثل من معنى الغرابة قالوا:فلان مثلة في الخير والشر ،فاشتقّوا منه صفة للعجيب الشأن .