ولقد ضرب سبحانه مثلا آخر لضلالهم ، وقد بدت لهم معالم الهداية ، وبزغ بين أيديهم نورها ، فقال تعالت كلماته:{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} .
المثل:الحال الشبيه والشأن ، واستوقد النار ، أوقدها بعد علاج وطلب للوقود ، فاستوقد معناها أوقد ، والفرق بينهما أن الأول يكون بطلب وجهد ؛ لأن السين والتاء للطلب ، وهي تفيد المعالجة في الإقادة ، فلا يصل الإقادة إلا بجهد ومشقة . وضرب الأمثال في القرآن كثير ، بعقد المشابهة بين الأحوال الواقعة ، وما يماثلها في الحياة ، لتقريب المعاني العالية التي اشتملت عليها كثير من آيات القرآن ، لتقريب المعاني المجردة للناس بعقد المشابهة بينها وبين أمر محسوس .
والمعنى السامي في الآية أن حال المنافقين في أنهم في وسط المؤمنين يناكحونهم ، ويتوارثونهم ، ويعاملونهم ، ويوادونهم ، ويدلون بالجوار بينهم وبينهم ، ومعرفتهم للإيمان وأهله وذوقهم محبة بعض المؤمنين ، وهذه الأحوال التي تكنفهم ، ومن شأنها أن يعلموا بها الحق ، وقد ربطتهم مودة الجار ، كل هذا ، حالهم فيه ، كحال من يستوقد النار ويناله ضوؤها ، وتخرج عليه بنورها ، حتى إذا انتفع وأدرك الحياة وعلم مغزاها ومعناها ، إذا كان كذلك خمدت النار بريح أو نحوها ، فبعد الضوء اللامع ، فذهب الله بنورهم فهم في ظلمات بعد ذهاب الضوء لا يبصرون .
ويصح أن يكون هنا تشبيه إفرادي ، وتشبيه تمثيلي .
أما الإفرادي ، فهو تشبيه الحال التي هم فيها من معاشرة أهل الإيمان ومخالطتهم ، ومجاورتهم ، وبذل المؤمنين المودة لهم من أهل وأقارب ، وإقادة النار المضيئة التي ينتفع بضوئها ، ثم تخمد فيذهب الضوء ، وشبهت حال النفاق التي آل إليها أمرها ، بالظلمات المتضافرة المتكاثفة ؛ لأن النفاق ضلال متكاثف كلما أوغلوا فيه ازدادوا ضلالا ، وأبعدوا فيه ، حتى لا مرجع إلى النور من بعد ، وشبه ما يحدثه النفاق في النفس من حيث إنه يسد الإدراك ، فيصبح العقل لا يدرك والنفس لا تتكشف ، بحال من لا يبصرون{ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ( 46 )} [ الحج] هذا تشبيه إفرادي ، إنه استعارة في أجزاء القول ، لا في جملته .
والاستعارة التمثيلية في جملة القول أنه شبه حال المنافقين في أن أسباب النور بين أيديهم ، وتحيط بهم ، ولكنهم لا ينتفعون بها – بحال قوم أو فوج من الناس استوقدوا نارا ، وعالجوها حتى أضاءت ، فلما أضاءت ما حولهم لم ينتفعوا بها فخمدت ، فذهب الله تعالى بنورهم فهم في ظلمات متكاثفة بنفاقهم لا يبصرون .
وفي النص عبارات بلاغية يجب الإشارة إليها:
أولها:أنهم جماعة ، والمفروض أنهم استوقدوا النار جميعا ، أو بتعاونهم ، ولكنه عبر بالمفرد ، فقال تعالت كلماته:{ كمثل الذي استوقد نارا} فعبر بالمفرد ، قالوا إنه مفرد أريد به الجمع ، وعبر بالمفرد لثلاثة وجوه:
( أ ) أن الموصول العبرة فيه بالصلة لا بلفظه ومن ذلك قوله تعالى:{ وخضتم كالذي خاضوا . . . ( 69 )} [ التوبة] .
( ب ) وأن الحقيقة أن الذي استوقد هو بعضهم أو فوج منهم ، وإن كانت الإضاءة للجميع ، والنفع بالضوء للجميع لا للذي استضاء وحده ؛ ولذلك كان التعبير بالجمع في حال الانتفاع ، إذ قال فلما أضاء لهم ، وبعضهم قد استوقد النار والجميع يستفيد من النور ، إذ هو يشيع ويعم ، ولا يخص من استقاد النار .
( ج ) أن المشبه به في الآية ليس هو الذي استوقد ، إنما المشبه به هو الحال التي كان فيها الاستيقاد أولا ثم خمود النيران ، وسيرهم في ضلال ، فعبر بالذي كما في قوله تعالى:{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا . . . ( 5 )} [ الجمعة] وكقوله تعالى:{ ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت . . . ( 20 )} [ محمد] فهو تشبيه حال بحال في كل هذه الأمثلة .
وثاني ما يجب الإشارة إليه أن نارا مصدر لنار ، وهي مرادفة ، ولذا يقال في التصغير نويرة ، ومنها يؤخذ النور ويجمع على أنوار .
والإضاءة النور الشديد – كما قال تعالى:{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا . . . ( 5 )} [ يونس] والمعنى أنهم صاروا في نور شديد موضح ثم خمد وأخمدوه هم في أنفسهم ، فلم ينتفعوا به ، فأشع النور ولم يتمكنوا من الانتفاع به .
وثالث ما يجب الإشارة إليه هو جواب "لما"في قوله تعالى:{ فلما أضاءت ما حوله} فقد كان في هذا الجواب نظران أحدهما:أن الجواب هو قوله:{ ذهب الله بنورهم} وذلك كلام صالح للجواب ، والثاني:أن الجواب محذوف دل عليه{ ذهب الله بنورهم} والمعنى ، أن الجواب خمدت النار أو انطفأت وذهبت الإضاءة .
وقوله تعالى:{ ذهب الله بنورهم} معناها أذهب الله نورهم الذي كانوا يسيرون فيه ، ويمكن أن ينتفعوا به ؛ ولذا أضيف النور الذي أذهبه إليهم ، إذ هم الذين خصص ابتداء لهم .
وعبر سبحانه وتعالى بقوله:{ ذهب الله بنورهم} لأن الباء للملابسة ، ومعناها هنا ذهب الله تعالى عنهم آخذا نورهم الذي أوقدوا ناره ، وقد ذكر الزمخشري الفرق بين أذهبه وذهب به فقال:"والفرق بين أذهبه ، وذهب به أن معنى أذهبه أزاله أي جعله ذاهبا ، ويقال:ذهب به إذا استصحبه وذهب معه ، وذهب السلطان بماله أخذه فذهب به . والمعنى أخذ الله نورهم فأمسكه ، وما يمسكه الله تعالى فلا مرسل له .
ومضمون هذا الكلام أن النور الذي أضاء لهم لا يذهبه الله تعالى ، ولا يضيعه ، بل يحفظه ويمسكه ليهتدي به غيرهم ، وهنا ملاحظة لاحظها الزمخشري ، وهي التعبير عن نورهم بالإضاءة ، وهي النور الشديد ، وذلك بأنها إضاءة شديدة تعقبها ظلمة شديدة كقوله:"للباطل صولة ثم يضمحل ، ولريح الضلالة عصفة ، ثم تخفت"فهي إضاءة شديدة لهم ، ثم ذهب الله بنورها لينتفع غيرهم ، أما هم فلا ينتفعون ولا يهتدون .
وإذا كان الله تعالى قد أخذ النور وذهب به ممسكا له غير مرسل إلا لمن يهتدي فقد تركهم بعد ذلك في ظلمات لا يبصرون . وعبر بالجمع ، فقال ظلمات للإشارة إلى تكاثف الظلمات في النفاق ، فإن المنافق في حال كذب مستمر ، وهم يدهنون في القول ، وهم يمالئون الظلم ، ولا ينتصرون للحق ، ودأبهم الإفساد في الأرض والسعي بنميم بين الناس ، وإرادة الأذى المستمر ، وكراهيتهم للناس ؛ ولذلك لما ذهب عنهم نور الحق ، تركهم الله تعالى في ظلمات متكاثفة لا يبصرون حقا ، ولا يدركونه ، ونفي الله تعالى عنهم الإبصار بالفعل المضارع ، لتجدد العمى عليهم ، وعدم الإبصار بتكرار أفعالهم المظلمة الدائمة .
وعدم الإبصار هو عدم الإدراك ، فلهم آذان لا يسمعون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل .