] اللّه يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ[ فيخيّل لهم أنَّ حيلتهم قد انطلت على المؤمنين ،وأنَّ شخصيتهم المزدوجة لم تنكشف لهم .] وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ[ فلا يعاجلهم بالعذاب ما يشعرهم بالامتداد الآمن ،ويعيشون مطمئنين في ما يخططون ويدبرون ،ويبقون على هذا التردّد والتخبط بين الشخصية الداخلية والشخصية الخارجية ،الأمر الذي يوحي بالضحك والاستهزاء .وأيّ موقف أدعى للهزء والسخرية من موقف المنافق الذي يتحرّك في المجتمع كحركة الفأر المذعور الذي يخاف من أية حركة يسمعها ،أو أي شيء يشاهده ،حذراً من الخطر ؟!والمنافق حاله حال هذا الفأر ،حيث يخاف من انكشاف حقيقة موقفه للآخرين ،فيقف موقف الخائف من نتائجه ومترتّباته .
وربما يطرح سؤال: إن الآية نسبت الاستهزاء إلى اللّه ،وهو من المعاني التي لا تتناسب مع عظمته تعالى ،لأنَّ الاستهزاء يمثّل لوناً من ألوان الخداع ،لأنك تظهر في حديثك بمظهر الجد ،ثُمَّ تعطيه بعض اللمحات والإشارات التي توحي بالسخرية ؟
والجواب: إنَّ التعبير يتجه اتجاه المحاكاة لتعبير الآخرين من دون أن يكون حاملاً لمعناه ،كما في قوله تعالى:] فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ[ [ البقرة:194] ،فإن ردّ الاعتداء بمثله لا يعتبر عدواناً على المعتدي ،لأنَّ مفهوم العدوان يعني الممارسة التي لا تملك فيها جانب الحقّ .ولكنَّ المشاكلة في التعبير للإيحاء بأنَّ هذا الفعل من نوع ذلك الفعل ،من حيث طبيعته العنيفة وإيلامه للنفس ..وربما كانت القضية في كلمة الاستهزاء كذلك ،باعتبار ما تمثّله كلمة الاستهزاء من الاحتقار وعدم المبالاة ،فكأنَّ اللّه يستهزىء بهم في ما يظهر لهم من الإمداد بطغيانهم ،كالذي يتكلّم مع الشخص بأسلوب الاحترام وهو يقصد السخرية .
وقد يكون المراد من استهزاء اللّه بهم ،مجازاته لهم على استهزائهم ،على هدى قوله تعالى:] وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا[ [ الشورى:40] ،ويحتمل أن يكون معناها ،تخطئته إياهم ،وتجهيله لهم في إقامتهم على الكفر وإصرارهم على الضلال ،ويمكن أن يكون المراد منه استدراجهم وإهلاكهم من حيث لا يعلمون ،كما جاء في معنى الاستدراج أنهم كلّما أحدثوا خطيئة جدّد اللّه لهم نعمة ،وهكذا تتنوّع الاحتمالات لتلتقي عند الواقع العملي الذي يجريه اللّه عليهم .
وقد يلفت نظرنا نسبة الإمداد بالطغيان للّه عزَّ وجلّ ،ولكن لهذا التعبير جانبين في مظهرين: سلبي وإيجابي ،فقد يتمثّل الإمداد بالطغيان في تشجيع الشخص على الإمعان فيه بالأساليب التي ترغّبه فيه وتدفعه إليه بطريقةٍ إيجابية ،وقد يتمثّل في الامتناع عن ممارسة الضغوط القوية ضدّه من أجل منعه من العمل وشلّ قدرته على المضيّ فيه .ولعلّ هذا هو المقصود بالآية ،فقد كان اللّه قادراً على أن يعطّل قدرتهم على الامتداد بالموت أو بغيره من وسائل التعطيل ،ولكنَّه لم يفعل ذلك ،بل تركهم وأنفسهم ليمارسوا عملية المواجهة للواقع من موقع الحرية والاختيار ،فكان من نتائج ذلك ،أنهم امتدوا في طغيانهم من خلال الوسائل الموجودة لديهم ،وهذا لا يتنافى مع إيماننا بحرية الإنسان في كفره وإيمانه وضلاله وهداه .